مقال رأي

هل انتهت اللعبة في الشرق الأوسط؟

الشرق الأوسط

البداية تفصح عن النهاية

عندما زار الرئيس الأمريكي السابق، نيكسون، سوريا برفقة وزير الخارجية هنري كيسنجر بتاريخ 15 / 6 / 1974، وخلال لقائه مع حافظ الأسد، أجريا مباحثات بناءة آنذاك بحضور وزراء خارجية البلدين، وبعد أن استعرضا الموقف السياسي والعسكري في المنطقة، قال الرئيس نيكسون في نهاية الحديث: “نحن مع تطبيق القرارين الدوليين الصادرين عن مجلس الأمن رقم 242 ورقم 338 بحذافيرهما، أي الانسحاب التام من الأراضي المحتلة وتحقيق السلام”، فقال له حافظ الأسد: هذا جيد، وإذا لم يقبل الطرف الإسرائيلي بذلك؟، فرّد نيكسون: “عند ذلك سوف نترك الإسرائيليين يقلعون أشواكهم بأيديهم”.

وبعد عودتهما مباشرة إلى واشنطن، تعرض لطعنة سياسية من الخاصرة فوجهت له ضربة قاضية من خلال فضيحة «ووتر غيت» التي دفعته إلى الاستقالة من منصبه، وبرهنت هذه الحادثة على مدى تأثير “اللوبي اليهودي” على القرارات السياسية التي تصدرها الإدارة الأمريكية منذ ذلك وقت الى يومنا هذا.

وباتت قرارات البيت الأبيض رهينة بيد هذا اللوبي، الذي يطيح بكل رئيس إن خرج عن الطاعة وحاول تجاوز الخطوط الحمر المرسومة له داخل الملعب، ففي أول خطاب للرئيس الأمريكي، جون بايدن، الذي تطرّق إلى سياسته الخارجية، كان الملفت أنه لم يأت على ذكر إسرائيل مؤكداً إنه سيعيد إحياء تحالفات مع زعماء آخرين في الإشارة إلى حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط (الخليجيين)، وعدم اتصاله برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو فزاد الطين بلة.

من الواضح أنه يريد الدخول في حلبة التحدي مع الجميع ويقلب التوازنات في المنطقة وإعادة ترتيب أوراقها من جديد، وهي وضع حد لأنقرة وطهران ومحاولتهما بالهيمنة على الشرق الأوسط.

هل انتهت اللعبة في الشرق الأوسط؟
هل انتهت اللعبة في الشرق الأوسط؟

أنقرة تحضر للمواجهة الكبرى مع واشنطن؟

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قرأ التقلبات السياسية بشكل كامل واستنتج من المشهد أن سفينة إدارة بايدن قادمة إلى الشرق الأوسط لا محال وذلك لتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ، ولتكريس سياسة بوش الابن من خلال الفوضى الخلاقة، وبناءً عليه بدأ يعد العدة تحضيراً للمواجهة، فبداية التحرك كان من خلال إعادة فتح العلاقات مع القاهرة لوضع النقاط على الحروف لأنهما تشتركان في نفس المخاوف، واتصال أردوغان بالعاهل السعودي، مساء يوم الثلاثاء، ومناقشة العلاقات الثنائية التي وصفوها بأنها كانت “إيجابية”، وترتيب العلاقة مع موسكو وبشكل حذر واللقاء الذي أجراه وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو في ليبيا، والتأكيد على العلاقات الإستراتيجية مع الدوحة على الدوام، وتطوير العلاقة مع “كييف ” للتنسيق فيما بينهم في القوقاز، والإعلان عن العمليتين مخلب البرق ومخلب الصاعقة، اللتين أكد عليهما وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، ضد مواقع حزب العمال الكردستاني في إقليم كردستان، كل هذه التقلبات في الموقف السياسي والميداني جاءت نتيجة شعور أنقرة بأن هناك طبخة ما يحضر في سوريا وبناءً على ذلك استنفرت وتحاول التجييش قدر المستطاع لمواجهة المشروع الامريكي البريطاني – المستقبلي- في سوريا.

هل تلقت طهران نفس الرسالة؟

يقول المتحدث باسم الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده، إن طهران مستعدة لإجراء محادثات مع السعودية على أي مستوى، فهذا إن دل إنما يدل على شعور طهران بنفس المخاوف وبالتحضيرات التي تتم في العراق وسوريا لكبح جماح تواجدها العسكري في المنطقة، وبالتالي لإخضاعها لأمر واقع جديد وإلا ستواجه عواقب وخيمة نتيجة ملفها النووي، فارتفاع نبرة طهران من خلال حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن، والتصعيد الحاصل في العراق وأفغانستان بعد إطلاق الصواريخ بشكل متكرر إلى أربيل، جميعها رسائل إيرانية ملغمة لواشنطن مفادها “لن نسمح لكم بإعادة رسم الخارطة في المنطقة من جديد”، فالرد الأمريكي على قصف أربيل جاء في (حارة الطي) بالقامشلي والإطاحة بميليشيا الدفاع الوطني المحسوبة على طهران تحت الصمت الروسي والنظام الذان وقفا مكتوفي الأيدي حيث استمتعا بالمشهد عن القرب.

طهران كما أنقرة تشعر جيداً وتعلم أن حاملة الطائرات البريطانية “Elizabeth” (الملكة إليزابيث) مزودة بطائرات “F35B Lightning Fast” النفاثة (الشبح)، المتوجهة إلى منطقة الشرق الأوسط للمشاركة في العمليات العسكرية لحرب تنظيم “الدولة الإسلامية” في العراق وسوريا من حيث الظاهر ليست في جولة سياحية، أما ضمنياً فربما يخطط لفرض حظر الجوي على منطقة شرق الفرات كما حصل في إقليم كردستان قبل ثلاثين عاماً، ويبدو أن ذهاب النظام السوري إلى مسرحية الانتخابات، جاءت بعد رسالة أمريكية أوصلها إلى دمشق رئيس المخابرات السعودية، خالد الحميدان، ولقائه باللواء علي مملوك، والتأكيد على الصمت الأمريكي على مسرحية الانتخابات لاستمرار منظومته الأمنية والعسكرية مقابل التخلي عن شرق الفرات، ولدى طهران ورقة قوية لمواجهة هذا التحدي، وهي ورقة قادة قنديل وتغلغلهم في شرق الفرات والتحكم بكل مفاصل المنطقة من الألف إلى الياء، ومحاولة التخلص من قيادات كردية سورية شابة تحت عنوان محاربة الفساد، هي بداية لسحب البساط من تحت أقدام واشنطن في سوريا والعراق ، بينما الأوروبيين بقيادة الدنمارك هم أيضاً مشغولون بملف آخر، يتلخص المشروع المقترح بإعادة المهاجرين السوريين من أوروبا على شكل دفعات إلى شرق الفرات وتأمين السكن ومتطلبات المعيشة والأمن والاستقرار لهم، بعد أن عصفت كورونا بالاقتصاد العالمي وأودت بها إلى الهاوية وخلطت جميع الأوراق ودفع ذلك بالأوروبيين إلى إعادة حساباتهم من جديد للخوف من دخول الاقتصاد في حالة الانكماش، بالتالي باتوا يبحثون عن الحلول البديلة بشكل جاد وعاجل خوفاً من تفاقم الوضع الاقتصادي بشكل أكثر وأعمق.

خلاصة القول: واضح من خلال التحركات الأمريكية في سوريا والعراق بأنها تشتم منها رائحة فوهة البنادق، فالتبرع ب 50 مليون دولار على سبيل المثال وفي الفترة الأخيرة لإدارة حزب الاتحاد الديمقراطي في شرق الفرات تحت عنوان (دعم المنظمات الإغاثية ومكافحة الفقر ) هو أحد الملامح الظاهرة في السياسة الأمريكية الجديدة في سوريا.

واضح أن النظام قبض ثمن صمته، وعودة القاهرة للتنسيق مع أنقرة والرياض دليل إنهم يمتلكون معلومات حول ما يخطط في سوريا والعراق ويرغبان بطي صفحة الماضي تحضيراً للمواجهة المشتركة الكبرى، فالقاعدة العامة تقول كل منطقة دخل إليها الجيش الأمريكي لن يستتب فيها الأمن والاستقرار، وخير دليل ما يحصل في العراق وسوريا على مدى العقود.

مشروع تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ، بات يناقش بشكل جاد على الطاولة، وموسكو من خلال تحركاتها المرنة والصامتة في سوريا، واضح أنها لم تبدِّ اعتراضها لما يخطط له، ويبدوا أنها قبضت الثمن في طرطوس والحميميم بعد أن استلمت أيضاً درعا وحمص ودمشق وحلب لتستفرد بهم وإلى الأبد، بينما طهران هي الأخرى تبحث عن حصتها فالتجأت إلى ورقة العشائر العربية في ديرالزور والحشد الشعبي لمواجهة المحتملة مع المشروع الأمريكي في سوريا والعراق، وباتت هذه الورقة خاسرة بالعرف السياسي والميداني بسبب انتهاء صلاحيتها.

بالمحصلة، اللعبة في سوريا والعراق وبقدوم بايدن إلى البيت الأبيض بدأت من جديد، فالهدف القادم ستكون مدينتا الحسكة وأربيل فهما المنطقتان الأكثر احتمالاً باشتعال المواجهات فيها وحولها. فواشنطن عملياً لن تتخلى عن منظومة العمال الكردستاني مهما كلف الأمر، لأنها أداة قابلة للمد والجزر دعمتها وحولتها إلى دويلة غير معلنة في شرق الفرات داخل دولة على حساب المشروع الكردي السوري وحقوقه الوطنية العادلة، بالتالي لن تسمح لأكبر إمبراطوريتين في الشرق الأوسط (تركيا وإيران) بأن تتمتعا بالأمن والاستقرار، لأن ظهور تركيا كدولة صاعدة وصاحبة أكبر تكنولوجيا الطيران المسيّر في العالم سيغير من القواعد اللعبة في المنطقة على المدى البعيد، بينما إصرار طهران على إتمام برنامجها النووي إلى النهاية ستجعلها قوة نووية منافسة لتل أبيب، كل ذلك دفعت بواشنطن إلى الوقوف بشكل جاد والبحث عن الحلول البديلة للمواجهة ووجدت نفسها في موقف لايحسد عليه، ولإن إرضاء تل أبيب ضرورة انتخابية مستقبلية، فبات خياراتها محدودة وهي اللجوء إلى تقوية أدواتها الوقتية وتسليحها على المدى البعيد تحت عنوان (محاربة داعش) والتجنب بالاحتكاك المباشر مع هذه الدول ومحاولة ابتزازهم لإجبارهم على الركوع أمامها أو خلق مشاكل داخلية واقتصادية لها، بالتالي اللعبة في الشرق الأوسط تنتظر صافرة البريطانيين، فنحن أمام تقلبات ثورية في المنطقة، وإن تمكنت واشنطن بدعم من لندن من فرض مخططها كأمر واقع جديد في سوريا والعراق فإن ذلك لن يقف على حدود دولة أو اثنتان، إنما ستمتد حتى الهند والباكستان، القوتان النوويتان اللتان ترعبان تل أبيب في شرق آسيا.

ولتمرير مشروعها ربما تلتجئ واشنطن إلى الحروب الاقتصادية وخاصة مع تركيا حتى تبتعد عن طريقها، وإن صمدت الأخيرة في وجهها فستدفع بها إلى الرحيل ورمي أدواتها إلى نهر الفرات كما حصل في أفغانستان والعراق، وتل أبيب هي الأخرى لا تريد دول جديدة صاعدة وقوية حتى تحافظ على توازن قوتها العسكرية والتكنولوجية في المنطقة ، وبالتالي تمنح لواشنطن دور إضعاف خصومها وتشتيتهم لتتمكن من تحقيق حلمها من “النيل إلى الفرات” ، وإلا فإن بايدن سيلقي نفص مصير نيكسون وسيجبره اللوبي اليهودي بإقلاع أشواكه بيديه، كلما فكر بالخروج عن الطاعة والدائرة الحمراء المرسومة له في واشنطن.

علي تمي/ كاتب وسياسي

ملاحظة: “ما جاء في المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي الموقع بالضرورة”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى