مسابقة خطوة 2014

يا حريّة: “بدنا المعتقلين” , عن سيرة السجون السورية

اسم المتسابق : نايا محمد عاصي

ملاحظة : المقالة المشاركة بالمسابقة لا تمثل رأي الوكالة بل تعبر عن رأي المتسابق فقط دون ان تتبنى الوكالة اية افكار او اراءا شخصية مذكورة ضمن المقالة

—————————————

 

260 ألف أو أكثر بحسب آخر الإحصائيات قضى منهم أكثر من 12 ألف انسان تحت التعذيب. كل 4 دقائق يزداد الرقم، ومع كل رقم جديد ثمة عذابات جديدة وذاكرة معطوبة بأهوال المعتقلات، حيث “الأمن” مفردة لا تنتمي إلى معانيها في المعاجم وحيث تتآمر اللغة مع السجّان فتصبح أفقر من أن تصف ما جرى، ما يجري وما سيجري لاحقاً.

لهذا السبب أو لغيره قد يفضل من سبق واعتقل الصمت كما قد يتجنب التطرق خشية معاودة اعتقاله إن كان مازال داخل البلاد أو خشية حضور ذكرى آلامه ظناً منه أن السكوت عنها سيمكنه من دفنها، بينما يرى آخرون في البوح نجاة، وضرورة لفضح ممارسات التي تحدث خلف أسوار السجون وأسلاكها الشائكة.

وتكاد لا تخلو اليوم عائلة سورية من معتقل سابق كان أم حالي.

س  أحد المعتقلين وهو شاب تم اعتقاله لمدة 4 أشهر خلال الثورة يصف حاله حين كان معتقلاً: ” تحت الأرض مع العتمة والرطوبة يتحرك كل شيء بقوة الخوف, يأمروننا بقضاء حاجتنا ببضع عدّات ثم تنهال علينا السياط، لم نكن نعرف الزمن إلا من خلال الوجبات التي كانت تقدم بصورة مقززة فغالباً ما نميز أن الحشرات تسللت إليها قبل تقديمها,  قد أستطيع نسيان كل شيء عدا صوت أحد من أفقدهم التعذيب رشدهم حين يجلدوه ويأمروه أن يتصرف ككلب يعوي و يعض بقية المعتقلين .

ليس كابوساً أو جحيماً ما شهدناه لابد أن يكون هناك كلمة أقسى “.

للمعتقلات في سورية تاريخ طويل بدأ  قبل الثورة بكثير فقد انقسم المجتمع السوري إلى قسمين الأول يمارس الوشاية لأجهزة الأمن,  و الثاني يتوجس و يعد أنفاسه و حروفه خوفاً منها ، وقد تعاقب على كل تلك السجون معتقلين من كل الأجيال على مدى عقود طويلة من قبل السلطة الحزب الواحد منذ أيام عبد الحميد السراج الذي أسس لأساليب التعذيب في سوريا إبان الوحدة مع مصر و من ثم انقلاب الثامن من آذار و حتى حكم آل الأسد الحالي الذي وصلت في عهده مستويات الوحشية و التعذيب مع بداية الثورة إلى درجات و أعداد غير مسبوقة في تاريخ سوريا ولعل أبرز ما يشهد على ذلك الصور التي سربتها وكالة الأناضول في فترة سابقة.

بحسب شهادات المعتقلين فقد تشكل تجربة الاعتقال امتحاناً لكل معتقدات الانسان الفكرية والسياسية والدينية حيث يخلو الانسان بنفسه وآلامه وعلى وقع ضربات التعذيب التي لا تستطيع قوة بشرية تحملها يتلاشى كل ما مالم يترسخ بأعماق النفس ويبدو العالم مقسوم إلى ضفتين داخل وخارج المعتقل بينهما أنهار من دم وقيح لجروح يتبارى السجان ويتلذذ في أساليب فتحها في جسد وروح المعتقل.

وشروط الاعتقال في سوريا كلها تؤدي إلى الموت فيخرج المعتقل في كثير من الأحيان إن بقي حياً ,هزيل الجسد تفتك به الأمراض الهضمية والجلدية وقد أضعفت عتمة الأقبية من بصره، موشوم الجسد والذاكرة بشتى أصناف التعذيب وإن قُتل إثر آلامه فتسلّم أوراقه الثبوتية لذويه إن تقدموا بطلب البحث عنه لاحقاً دون أي تعويض أو ضجيج إعلامي بل تستفيد السلطة من كونها جعلت منه عبرةً لمن يعارضها بالقول أو الكتابة أو الفعل.

وكعادة كل الجلادين في تاريخ البشرية لا تتجلى غاية الجلاد والسجان هنا بأن يقتل المعتقل جسدياً بل بأن يقتله من الداخل وأن يصيب بضرباته جوهر حياته وتطلعاته فيكون التعذيب في كثير من الأحيان لأجل التعذيب فقط دون أن تحمل الضحية أي تهمة أو معلومة قد يستفيدون منها فلا ينجو من التعذيب لا بالرفض ولا بالاعتراف والإقرار بتهم لا أساس لها ولا بالصمت أو الإذعان فالمطلوب بات إذلال وترهيب أكبر عدد من الناس وإخضاعهم سواء كان ذلك بالتخويف أم بغيره.

لم تقتصر معاناة المعتقلين عليهم كأفراد فخلف كل معتقل عائلة ترزح اليوم تحت آلام فقدان ابنها ومصيره المجهول في معتقلات السجون والفروع الأمنية وقد شكل قلق وخوف تلك العائلات مادة خصبة لابتزازهم من قبل المتنفذين في الأجهزة الأمنية عبر وسطاء وسماسرة أصبح المعتقلون من خلالهم يشكلون تجارة رابحة لمآسي المعتقلين ولوعة ذويهم فتُدفع اليوم مبالغ طائلة لقاء تأمين موافقة على طلب زيارة السجين أو لقاء معرفة مكانه فقط أو حتى لقاء وعود غير مؤكدة بعدم التعرض له بالتعذيب طيلة فترة مكوثه.

أم أدهم (أم لشابين معتقلين) تحدثت عن تجربتها: “أول مرة تعرض منزلي فيها للتفتيش سألوني أين أبنائي وعندما قلت لهم: “معتقلين عندكم”، لكمني أحدهم على وجهي موضحاً بكل أنواع الشتائم أنه من الممنوع أن استخدم لفظ “معتقل” فهم ليسوا إسرائيليين حسب زعمهم. والآن لا أعلم مصير أحد من أولادي وقد بعت كل ما أملكه من حليّ ذهبية لقاء أن يسرعوا بالإفراج عنهم وها أنا منذ عامين ونصف أنتظر”

هكذا يبدو الانتظار مرّاً خارج المعتقل بما يحمله من حسرة وإحساس بالعجز أما داخله فلا يقاس الانتظار بالزمن بل يقاس بالصرخات والأنّات والأنفاس المسروقة من أقبية الزنازين الخانقة وغرف التعذيب.

يتحدث لؤي حسين عن تجربته خلال 7 سنوات من الاعتقال واصفاً أدوات التعذيب فيقول في كتابه (الفقد): “كل أدوات التعذيب في بلادي رخيصة عدا أحذيتهم الأوروبية كرسي التعذيب رخيص وسلم الشبح الخشبي كذلك أما الكرابيج فهي بقايا كابلات هواتف رباعية الاسلاك ومولد الكهرباء عبارة عن هاتف عسكري ميداني تالف وقديم لا ثمن له ولا قيمة لا يحتاج إلا لبطارية تكفيه ليصعق ثور وبالتالي كل تلك الآلام لم تكلف السلطة السورية شيئاً”

ولعل الوطن العربي هو الوحيد الذي ينفرد بجنس أدبي يسمى أدب السجون حت أنه بات من اليسير التعرّف على حكم أي بلد عبر الاطلاع على تجربة معتقلي الرأي فيه فمنذ “شرق المتوسط” لعبد الرحمن منيف (1976 م) وحتى اليوم تتراكم الكتب التي تصف الاعتقال كتجربة وذاكرة ومن أبرز الأعمال التي صدرت عن سجون سوريا: القوقعة (مصطفى خليفة) – نيغاتيف (روزا ياسين حسن)، خيانات اللغة والصمت (فرج بيرقدار)، خمس دقائق فقط (هبة الدباغ)، بالخلاص يا شباب (ياسين الحاج صالح)، من تدمر إلى هارفرد (البراء السراج).

إن مرارة اللغة وملحها المنثور في حلق من يقرأ تلك التجارب السابقة و التجارب اللاحقة لمن يعايش الآن تجربة الاعتقال تؤكد عبثية العودة إلى خنادق الصمت .. فكما لا يمكن للدم أن يعود إلى أجساده، لا يمكن أيضا العودة عن التغيير بعد نزيف كل تلك التضحيات، لذا أضحى من واجب كل من يحمل ضمير إنسانياً أن يصرخ .

نايا محمد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى