مقال رأي

تاريخ سورية سلعة رائجة

تقرير سومر لوخج

لم يشفع لها تاريخها ولا مكانتها الحضارية والثقافية في حمايتها من أهوال الحرب التي أتت على الحجر والبشر في الدولة الشرق أوسطية على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، بل تهافتت القوى المتصارعة على إهدارها إما بالتدمير أو المتاجرة بها. وقد يظن المرء أن أكبر مصيبة تعرضت لها آثار سورية مهد الحضارة هي قصفها وتدميرها إلا أن مأساة سرقتها وبيعها يضاهي ذلك.

وبعد تصاعد الحراك المسلح تعالت الصيحات والنداءات التي طالبت بحماية المواقع الأثرية والمتاحف والتي تعرض معظمها للنهب والتخريب، وكان أبرزها تقرير أصدره معهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث عام 2014 حذر فيه من الأخطار التي تهدد المواقع الأثرية السورية حيث أحصى التقرير حوالي 290 موقع تعرضوا للضرر أبرزها في مدينتي تدمر وحلب.

صورة من التقرير الذي أصدره معهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث عام 2014

1

وبناءً على ذلك قدمت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) خطة لحماية الآثار السورية بتمويل من الاتحاد الأوروبي لثلاث سنوات، تهدف إلى نزع السلاح من المواقع الأثرية المهددة ومحاربة تهريب الآثار

إلا أن الخطة لم تحقق أهدافها بسبب استعار الحرب وتبادل القوى المتصارعة السيطرة على المواقع الأثرية.

وفي عام 2017 أقرت اليونسكو، في دورتها الـ 40 التي انعقدت في مدينة إسطنبول التركية، إبقاء مواقع التراث العالمي الستة في سورية (مدينتي حلب ودمشق القديمتين، قلعتي الحصن وصلاح الدين، موقعي تدمر وبصرى، القرى الأثرية في شمال سورية) على لائحة الخطر لليونسكو بسبب عمليات النهب والسرقة والتخريب الذي تتعرض له.                                    

وعلى الرغم من هذه القرارات والتحذيرات فقد استمرت الجرائم بحق هذا الإرث العالمي وتحول هذا التاريخ إلى سلعة رائجة في الأسواق العالمية. فالقصف لم يكن المسؤول الوحيد عن ضياع هذا الإرث فحسب بل ساعد على إظهار مكنونات الأرض من مقتنياتها دون تنقيب احترافي مما أتاح المجال لسرقتها بالإضافة إلى نهب العشرات من المتاحف والمواقع الأثرية وتهريبها إلى الدول المجاورة كلبنان والأردن وتركيا، وبحسب تصريحات صحفية للمدير العام للمتاحف والآثار في حكومة النظام السوري مأمون عبد الكريم فإن المواقع الأثرية التي تضررت بفعل المعارك وعمليات التنقيب تقدر بنحو 10 آلاف موقع، وأضاف مأمون أن مديريته أحصت حوالي 12 متحف تمت سرقة محتوياته وأضاف أن المديرية استطاعت استرداد الكثير من القطع وحفظها بمكان آمن وملائم.
ومن المعروف أن عمليات التنقيب وبيع الآثار قبل عام 2011 كانت تتم بشكل سري جداً عن طريق بعض التجار المرتبطين بأشخاص من ذوي السلطة حيث وجهت اتهامات بممارسة هذه الأنشطة المحرمة لرموز مرتبطة بنظام الحكم في دمشق

حيث قال الأستاذ جلال سيرس الموظف في وزارة الثقافة بالحكومة السورية المؤقتة والمطلع على ملف الآثار بأغلب تفاصيله “أن المديرية العامة للآثار التابعة للنظام وقبل بدء الثورة كانت ضالعة بأعمال تهريب واستبدال قطع أصلية بقطع أخرى على حساب بعض المتنفذين في الدولة والمقربين من القصر الجمهوري”.

وبعد عام 2011 ومع بدأ انفلات القبضة الأمنية للنظام في الكثير من المناطق نشطت هذه التجارة بشكل واسع وعشوائي عن طريق تجار آثار ومنقبين غير اختصاصيين وبأدوات بسيطة وتقليدية خربت الكثير من المواقع والقطع، وشهد المحامي م.ر أحد سكان ريف حلب الجنوبي لحادثة تخريب حصيرة أثرية عليها نقوش أثناء قيام أحد الأشخاص بإخراجها.

ومع مرور الوقت واتساع دائرة الحرب دخلت هذه التجارة ضمن الأجندات الدولية فبحسب المحامي م.ر  “تم تجنيد أشخاص لهم صلة بجهات مخابراتية ومافيات عالمية و تم تزويدهم بأجهزة كشف حديثة للتنقيب عن هذه القطع” .

وبدأت القوى المتصارعة بتقاسم هذه الثروة بشكل غير مباشر في مناطق سيطرتها وخصوصاً في مناطق درعا وحماة وتدمر وإدلب وحلب والحسكة، حيث تمت سرقة وتفريغ العديد من المواقع والمتاحف، وكان البحث والتنقيب يتركز على التماثيل ولوحات الفسيفساء والمخطوطات القديمة و نقوش حجرية أخرى، واختلف هدف الفرق من هذه التجارة فمنها من سعى للربح للسريع ومنها من اعتبرها مورداً للتمويل.

ويأتي في طليعة المستفيدين من هذه التجارة قوات النظام وحلفائه وتنظيم الدولة الإسلامية من خلال سيطرتهم على العديد من المواقع الأثرية بالإضافة إلى من استغل الظروف الأمنية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري من فصائل عسكرية وحتى تجار.

حيث قال الأستاذ جلال سيرس “لا يمكن أن نبرئ أي جهة من عملية سرقة وتهريب الآثار فجميع القوى الفاعلة على الأرض متورطة بشكل مباشر أو غير مباشر بعملية التنقيب والتهريب”،

فقد استغلت مجموعات محسوبة على النظام غياب الرقابة وسطت على الكثير من محتويات المتاحف والمواقع (كمتاحف حلب وحمص حماه ومناطق بصرى الحرير وتدمر …..)

“وكان من أهم المسروقات تمثال مطلي بالذهب يعود إلى الحقبة الآرامية تمت سرقته من متحف حماه”،

وبالتوازي مع ذلك نشطت عمليات التنقيب عن الآثار المدفونة في المناطق التي سيطرت عليها هذه القوات في مدينتي تدمر ودرعا

 

التمثال المسروق من متحف حماه

2

صورة نشرتها منظمة اليونسكو  February  2013

وبحسب الإعلامي شادي الجندي فقد عملت قوات النظام وحلفائها على تغطية هذه السرقات عن طريق تبادل السيطرة مع مجموعات مستفيدة بالإضافة إلى افتعال معارك وهمية وقصف هذه المواقع وتدميرها بحجة وجود خارجين عن القانون فيها.

فيما اعتمدت هذه الجهات على أساليب مختلفة في تهريب هذه الآثار فقد أوضح الأستاذ جلال سيرس أن النظام اعتمد على الحقائب الدبلوماسية في إخراج هذه القطع إلى الخارج بالإضافة إلى التنسيق مع شخصيات رسمية من عدة دول.

من جهة اخرى وجدت المجموعات المتشددة كتنظيم الدولة الإسلامية نافذة أخرى لتغطية سرقاتها من القطع الأثرية، وادعت بحرمانية وجود هذه الآثار وأنها لا تمت للإسلام بصلة بل هي الوثنية بكل معانيها فوجب تحطيمها وتدميرها، كآثار مدينة الرصافة جنوبي الرقة وقوس النصر ومعبدي بل وبعلشمين في تدمر، وتمثال السيدة العذراء في صيدنايا وغيرها من المواقع، فلجأ التنظيم إلى تفخيخ هذه المواقع وتفجيرها ونسف معها تاريخاً كاملاً يعبر عن عصور من الفن والثقافة والعمران

معبد بيل

معبد بعلشمين

صور أقمار صناعية نشرها معهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث December 2015 تظهر بعض المواقع قبل وبعد تفجيرها من قبل تنظيم الدولة

 

ورافقت عمليات التدمير والتحطيم عمليات نهب وسرقة فأفرغ التنظيم بعض المواقع والمتاحف الواقعة تحت سيطرته كمستودع هرقلة الأثري في مدينة الرقة بالإضافة إلى المتحف الوطني في المدينة والمقبرة الرومانية في مدينة حلب كما أفرغ متحف قلعة جعبر الذي يحتوي على العديد من القطع التي تعود إلى العصر البيزنطي بالإضافة إلى تماثيل للآلهة عشتار وجرى تهريب هذه القطع إلى الدول المجاورة عبر المناطق الحدودية الخاضعة لسيطرة التنظيم وبهذا الخصوص أوضح الأستاذ جلال سيرس أن عمليات التهريب كانت تتم عبر خطين الأول أنفاق إلى الدول المجاورة كالأردن و تركيا والخط الثاني عبر سماسرة وتجار مرتبطين بجهات خارجية تقوم ببيع هذه المقتنيات في السوق السوداء

صور نشرتها منظمة اليونسكو لقطع أثرية من مستودعات هرقلة قيل أنها تمت استعادتها من أيدي تنظيم الدولة

 

كما استغل بعض الأشخاص والتجار المحسوبين على الفصائل العسكرية المعارضة الأوضاع الأمنية في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام حيث عملوا على الاستفادة من الكنوز المدفونة في المناطق التي سيطروا عليها ولم يبالوا بخطورة التنقيب العشوائي وضرره على هذه المواقع، وكانت آلية التنقيب أو النبش كما سماها أحد العاملين في هذه الأنشطة بريف إدلب (رفض ذكر اسمه) “تختلف من جهة إلى أخرى بناءً على رأس المال الذي يستطيع تأمين معدات حديثة لعمليات النبش والقوة العسكرية التي تستطيع حمايتها وتأمينها”.

 

 

صور تظهر عمليات الحفر والتنقيب بريف إدلب والمعدات المستخدمة

وأصبحت سورية أكبر مصدر للآثار حيث غرقت السوق السوداء بقطع الآثار المهربة ونشطت المزادات الغير مرخصة وخصوصاً في أوروبا وأميركا، كما نشطت عمليات البيع على منصات التواصل الاجتماعي مما أفقد هذه القطع قيمتها الأصلية وخفض من أسعارها بحسب سيرس،

وعلى الرغم من النداءات التي طالبت بالحفاظ على هذه القطع وحمايتها من التخريب والضياع لم تفلح الجهود الدولية ولا التشديد الأمني من قبل الدول المجاورة حتى الآن في حماية هذا الإرث حيث اقتصرت هذه الجهود على التنديد والقرارات غير النافذة بالإضافة إلى إيقاف بعض عمليات التهريب كالتي حصلت في تركيا والأردن ولبنان، حيث تمكنت الشرطة التركية من إفشال عدة عمليات تهريب في ماردين واسطنبول وغازي عنتاب وكان آخرها ضبط حوالي 168 قطعة تعود للعصور الرومانية والبيزنطية والعثمانية وصادرتها واحتفظت بها، بينما عملت الحكومة الأردنية على إنشاء مستودع لحفظ القطع المصادرة على أراضيها وأعلنت على لسان مدير عام دائرة الآثار العامة الأردنية، منذر الجمحاوي أنها ستعيدها إلى بلدها الام سورية عندما تستقر الأوضاع.

كما فشلت حكومة النظام السوري ومؤسسات المعارضة بلعب أي دور في سبيل المحافظة على تاريخ البلاد وعلى العكس شاركوا بجريمة لا تقل بشاعة عن جرائم القتل والتهجير والاعتقال                                                                    

صور نشرتها وكالة جيهان لقطع صادرتها                     صور نشرتها جمعية حماية الآثار السورية
                                                                  لقطع صادرتها الشرطة التركية في مدينة غازي عنتاب      

                

صور نشرتها جمعية حماية الآثار السورية للوحات          صور نشرتها جمعية حماية الآثار السورية قطع صادرتها            

     صادرتها الشرطة التركية في إسطنبول                           الشرطة اللبنانية      

 

وعلى الرغم من وجود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والذي يقول أن تناسي حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال همجية آذت الضمير الإنساني، إلا أن الشعب السوري لم يعد  يعول على أي جهة لحماية تراثهم من الضياع فمن لم يستطع حماية البشر لن يتمكن من حماية الحجر

ملاحظة : وكالة ستيب نيوز لا تتبنى وجهة نظر كاتب المقال وليس من الضروري أن يعكس مضمون المقال التوجّه العام للوكالة

122 01

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى