خاص: ستيب تُرافق أحد بائعي البسطات في أرصفة دمشق!!
إعداد: إيثار السالم
مراسلة وكالة ستيب نيوز في دمشق
جالسًا على أحد أرصفة دمشق في شتاءٍ بارد، كان الطفل “سلطان” يبيع بعض الثياب القديمة وأدوات الزينة المستهلكة، وأشرطة كهربائية مستعملة، وخيوط قديمة مُغبّرة، اقتربتُ منه وسألته، مرحبًا كيف حالك؟ هل تمنحني بعضًا من وقتك؛ أرغب أن أُجري معك لقاءًا صحفيًّا؟، نظر إليها متسائلًا، فأجابته على الفور؛ سأسألك عن تفاصيل حياتك اليوميّة وألتقط لك صوراً، ثم أنشرها في إحدى الجرائد أو المواقع الالكترونية مثلًا!! فردّ عليها مبتسمًا: نعم، اسألي ما تشائين.
اعتقد “سلطان” أنَّ هذا اللقاء قد يغيّر حياته، لعله يحصد اهتمامًا من نوع خاص كما شاهد في أحد أفلام الكرتون، عندما ظهرت لمعةُ عينيه أثناء التقاط الصورة له، وبدأ حينها بقصِّ سيرته، قائلًا: اسمي سلطان عمري 10 سنوات، ولدت في بلدة مسرابا، إحدى بلدات الغوطة الشرقيّة لمدينة دمشق، أعيش مع أبي وأمي وأخواتي الاثنتين، إحداهما لديها قصور في الغدة لذلك هي قصيرة القامة بشكلٍ واضح.
سلطان، ما بين الحصار وأرصفة دمشق
دُمرَّ بيتنا في مسرابا نتيجة القصف المستمر، فنزحنا للعيش في قرى أخرى داخل الغوطة مثل حمورية وسقبا، كنت أعمل أجيرًا عند والدي في تلك الفترة وأبيع مثل هذه الأشياء التي ترينها الآن، كنت أخاف من القصف وأركض إلى القبو كلما شعرتُ بالخطر.
وبعد فك الحصار، واستعادة النظام السوري للغوطة الشرقية بأكملها، فضّلت عائلة “سلطان” إبرام مصالحة والبقاء في الغوطة بدلًا من التهجير إلى إدلب، ومكثوا في بيت داخل مدينة حرستا، لكن بعد أن اشترط عليهم صاحب البيت هذه الجملة، “تبقون هنا لكن لا أريد مشاكل”.
وأكمل سلطان، البيت بارد جدًا، ولا تتوفر فيه وسائل للتدفئة، كما أنَّ الكهرباء لا تأتي إلا نادرًا، اعتدت على البرد، اعتدت على الشجاعة ربما اعتدت على كل شيءٍ مؤلم.
تفاصيل يوميّة
لم تُختذل حياة “سلطان” في الشارع، إنما يعيش كـ بقية أطفال العالم حياة الدراسة، حيث تحدّث: بعد المدرسة أنزل إلى هذا الشارع، واستلم البضاعة عن والدي وهو يذهب إلى سوق (العصرونية)، سوق دمشقي قديم تُباع فيه مستلزمات المدارس، ليشتري بضائع جديدة بثمن هذه البضائع القديمة التي نبيعها الآن، كنت أدرس ولم أتغيّب عن المدرسة سوى 5 مرات لكني لا أجيد القراءة والكتابة بشكل جيد.
في الوقت الذي كان يتحدّث فيه “سلطان” عن تفاصيل يومه، تسير أقدام المارّة بالقرب من “البسطة” ويسأله البعض عن ثمن الأشياء المعروضة، منهم من يشير بيده وينحني ومنهم من يشير بقدمه بتكبر، منهم من يشتري، ومنهم يستغلي الثمن وينصرف، وتراه يعرض للناس بضائعه بثقة مطلقة، ولا يقبل بتخفيض السعر لأيّ أحد، وخاصة حين يشرح للزبائن عن عيوب بضائعه المستهلكة حتى يكون المشتري مطلعًا تمامًا قبل أن يتخذ قرار الشراء، مثلًا حين سأله أحدهم عن سعر مظلة؟ أجابه: 500 ليرة، لكن انتبه فيها عطل واحد فقط حين تفتحها هكذا مثلًا، وفتحها؛ تجد سلكًا مكسورًا، أنظر.
في ذات الوقت، توقّفت سيارة وترجّل منها شخصٌ يحمل بيده هاتفين محمولين، وبدأ يتفحّص بضاعة “سلطان” حتى لفتته ساعة قديمة، فسأله ضاحكًا عن سعرها، ردّ وهو يرتب بضاعته (5000)، لكنها تحتاج لبطاريّة وبعدها تعمل ببراعة، تعجّب الرجل وبدأ يساومه على السعر قائلاً: نزيل صفر تصبح (500)، لكن “سلطان” حزم الجدال، بقوله انتظر حتى يعود أبي، إمّا أن يقبل، وإمّا أن يرفض.
بقايا ذكريات أُخرجت من تحت الركام
بضاعتي هي بقايا (بسطة) كنا نبيعها في الغوطة الشرقيّة أيام الحصار، كـ هذه الخواتم مثلاً، وهناك أشياء قديمة مثل هذه الخيوط وجدناها بين أنقاض البيوت المهدّمة في الغوطة جلبناها معنا للبيع، وهذه الأثواب الصغيرة أيضًا لأختي القصيرة، وسترة كنت أرتديها وأنا صغير.
على الرغم من أنَّ معظم بضائعه مستهلكة لدرجة كبيرة، لكن بعض الناس تشتريها لأنها أرخص من الجديدة، وبعضهم يشتري الأشياء التالفة لإعادة تدويرها في صناعة مفيدة، وهكذا تتحول ذكريات بشريّة إلى أوراق نقديّة يشتري به “سلطان” بضائع جديدة نافعة يبدأ بها مسيرته كـ تاجرٍ صغير.
أحلام بين الخيال والواقع
قال سلطان: أرغب أن أصبح مهندسًا معماريًا مثل والدي، أعتقد أنها مهنة جيّدة، لكن يجب أن أدرس كثيرًا، والدي أصيب بالديسك في ظهره! لذلك ترك عمله.
يظن “سلطان” أنَّ والده كان مهندسًا معماريًا وربما كان عاملا في البناء ليس إلّا! ولعلّه تخرّج من قسم الهندسة فعلًا، لكن في سوريا نادرًا ما يعمل الشاب بمجال دراسته، فكيف سيحقق سلطان حلمه؟
واختتمت حديثي مع سلطان: هل تعتقد أنه من الجيّد أن تتكلم عن تفاصيل حياتك للغرباء؟ كما فعلت الآن؟، وبعد صمت استمر بضع ثوان ردّ: أخبرتك عن تفاصيل معروفة للجميع.
يرفض “سلطان” أخذ المال من أحد دون أن يبيعه شيء، ويسعى أن يعمل ليجني قوت يومه دون أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه، ودون أن يستجدي بكلامه من المارة أن تنظر إلى بضاعته، وبغض النظر عن نوعية البضاعة ومصدرها، إلّا أنه معذور في هذه المدينة التي تُعاني من ازدحام سُكاني وبطالة وغلاء وموارد محتكرة، في مدينة تُنفق الحكومة فيها الكثير من الموارد الماليّة على فنان كوري الجنسية ليعيد رسم وهندسة البانوراما الحربية؛ التي كانت موجودة بداية أوتوستراد حرستا، قبل اندلاع الثورة، أو ينفق مفسدو النظام المال لإعادة تعبيد شوارع مهترئة بشكل عشوائي دون تنظيم حتى.
حين تسير في شوارع دمشق وريفها، ترى عشرات الجمعيات والمنظمات الإنسانيّة، وأول ما يتبادر لذهنك؛ ماذا قدّمت تلك الجمعيات، أين تُصرف الإعانات والتبرعات، حتى ما إن تدخل المساجد تجد الناس تتبرع بالمال في صناديق تفتتحها وزارة الأوقاف حصرًا وتنفقها على زخرفات المساجد والمعاهد الشرعية، وعلى أساتذتها ونشاطات لـ طلابها وروّادها، في المقابل هناك آلاف الأطفال كـ “سلطان” مرميين بالشوارع لا يسأل عن مصيرهم أحد.