مقال رأي

واشنطن وموسكو.. حرب النفس الطويل وتكسير العظام

طفا الصراع على السطح بين واشنطن وموسكو في سوريا في عام 2015 عندما تدخلت روسيا عسكرياً لصالح النظام السوري وتمكنت من قلب الموازين لصالحه، وأعادت عقارب الساعة إلى الخلف، وغيرت قواعد اللعبة داخل هذا البلد من خلال إعادة فصائل المعارضة السورية إلى المربع الأول في مشهد على ما يبدو لن يتكرر على الأقل في 50 عاماً المقبلة، قبل ذلك دخلت الدولتان النوويتان في صراع قوي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وسمي “الحرب الباردة”، وفيما بعد دخلت الدولتان في معركة كسر العظم في كوبا وعرفت حينها (بأزمة صواريخ كوبا في عام 1962)، إذ كادت أن تشعل حرب نووية وتجرّ البشرية جمعاء إلى كارثة جديدة لكن سرعان ما تم إنقاذ الموقف في اللحظات الأخيرة قبل أن ينفجر.

كل هذه الوقائع والمعطيات دفعت بواشنطن إلى موقع لا تحسد عليه، فكانت تنظر إلى ” الاتحاد السوفياتي” السابق على أنه يشكل تهديداً مباشراً لنفوذها ومصالحها الاستراتيجية في العالم، فتمكنت من توريط موسكو في حرب أفغانستان في عام 1988 حتى استسلمت موسكو أمام الفصائل الإسلامية المتطرفة هناك وانسحبت منها مهزومة قبل أن يتفكك الاتحاد السوفياتي في عام 1991 ومنذ ذلك الوقت تتحضّر الدولتان لجولة أخرى من المواجهة، فجاءت أزمة أوكرانيا على طبق من ذهب بالنسبة لواشنطن لتنقل الحرب إلى عقر الدار الروسي وجرّ “بوتين ” إلى حرب مفتوحة لاستنزاف قوته وطاقته في معركة خططت لها بهدوء، ولن تنتهي على المدى المنظور.

فيما بعد تلقت واشنطن الرسالة الروسية في سوريا برحابة صدر، وتعاملت معها بازدواجية تامة، فمن جهة حرضت الطيران الإسرائيلي لقصف مواقع المليشيات الإيرانية متى وكيف شاءت، وذلك لابتزاز الجيش الروسي، ولضرب هيبة صواريخه وقواعده العسكرية داخل سوريا، ومن جهة أخرى دفعت بحليفتها الميدانية في سوريا (قوات سوريا الديمقراطية ) إلى السيطرة على منابع النفط والبترول لمنع موسكو من الاستفادة من انتصاراتها العسكرية (اقتصادياً) وحرمانها من المكاسب المالية التي قد تحصل عليه، ولمنع النظام السوري من دفع فواتير موسكو العسكرية داخل سوريا حتى تخرج من الحلبة فارغة اليدين وصولاً إلى معركة كسر العظم داخل أوكرانيا.

معركة كسر العظم داخل أوكرانيا

عرضت واشنطن على كييف في 2021 فكرة الانضمام إلى حلف الناتو ومن ثم إلى الاتحاد الأوروبي.

المقترح الأمريكي هذا حمّل في طياته الخباثة وفخ لتوريط بوتين في هذا البلد، لاسيما وأن الأمريكيين يدركون جيداً أن الكرملين يعتبر أوكرانيا الدرع الجغرافي لروسيا الاتحادية، ولا يمكن أن يقبل حتى بمجرد فكرة انضمامها إلى الحلف، وبالتالي كانوا ينتظرون ردّة فعل روسيا حتى تغزو أوكرانيا وهذا ما حدث بالفعل بناءً على حسابات دقيقة ومدروسة، وبالتالي لم تحصل موسكو على ما تريد في أوكرانيا، ولكن يبدو أنه وبعد مراجعتها لحساباتها اكتفت بضم أربع مناطق أوكرانية تحتلها القوات الروسية الى سيادتها كأول مرحلة وذلك من خلال حفل كبير أقيم في الكرملين وبمشاركة الرؤساء الذين عيّنتهم موسكو، وهتفواً جميعاً “روسيا روسيا”.

يبدو أن الأهداف التي حددها الرئيس الروسي في البداية قد تم تقليصها أثناء الحرب التي افترض أنها ستنتهي بانتصار سريع ،لكن لم يستطع الرئيس بوتين حتى الاعتراف بأنها كانت غزواً أو حرباً، مفضلاً عبارة “عملية عسكرية خاصة”.

بالعودة إلى عمق الصراع الروسي الأمريكي في العالم، فإن الدراسات والأبحاث تشير إلى أن الأزمة الأوكرانية الراهنة تشكل أبرز التحديات التي تواجه العلاقات بين الدولتين النوويتين، فبين السعي الأمريكي لتثبيت الهيمنة في العالم وبين المعضلة الروسية لتحديد هوية ما بعد الحرب الباردة، تأتي الأزمة الأوكرانية لتثير العديد من التساؤلات في المجتمع الدولي ككل وحول مستوى العلاقات الأمريكية الروسية بالتحديد، وذلك نظراً لما تشكلها (الأزمة الأوكرانية) من أهمية بالنسبة للطرفين وسعي كل منهما لحلها بالشكل الذي يحقق مصالحهما الداخلية والخارجية على حد سواء.

ويقول قائل: لو لم تكن واشنطن راضية عن الوقائع الجديدة في أوكرانيا لما تمكنت موسكو من الاعتراف بالجمهوريات الأربع ( لوغانسك، ودونيتسك، وخيرسون، وزابوريجيا ) وضمها لسيادتها .

القادة الأوروبيون يريدون اليوم من “بوتين ” أن ينتصر لكن ضمن جغرافية محددة و خطوط حمراء حتى لا ينجّر إلى استخدام السلاح النووي، وهم مطلعون تماماً على ماهية تفكير الرئيس الروسي وتهوره، وأنه لا يمكن أن يقبل الهزيمة الكاملة في أوكرانيا مهما كلف الأمر، لهذا السبب سمحوا له بالإعلان عن انتصار محدود بهدف تطويق الأزمة ومنعها من التمدد إلى العمق الأوروبي وخاصة أن القارة العجوز تعاني اليوم من مشاكل اللاجئين والطاقة ،ولا يمكنها أن تتحمل مزيداً من الأعباء التي باتت تتساقط عليها من كل حدب وصوب، وبالمقابل تقدمت ” كييف” بشكل رسمي بطلب العضوية في الناتو، وعلى ما يبدو أن هناك تفاهماً حصل فيما بينها، والسيناريو المرجح هو أنه من الممكن أن تعترف واشنطن بضم الجمهوريات الأوكرانية الأربع مستقبلاً لروسيا مقابل موافقة الأخيرة على تثبيت الوضع القائم في شرق الفرات داخل سوريا والاعتراف بها كمنطقة نفوذ أمريكية على المدى الطويل.

ارتدادات الأزمة الأوكرانية على الشرق الأوسط

تشير ردود أفعال دول الخليج العربي إزاء هذه الحرب، إلى أن “بوتين” نجح في بناء علاقات بناءة مع الجميع ونفوذ براغماتي في المنطقة وبشكل متوازن، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أقنع دمشق وطهران بالوقوف معه كحليفين إستراتيجيين، بينما أنقرة هي الأخرى أجبرتها الظروف المختلفة التي تحيط بها للوقوف على الحياد حيال الأزمة الأوكرانية وعدم الدخول في مواجهة مباشرة مع موسكو، بينما تسير تل أبيب على خط دقيق ومتفرج ولو ظاهرياً، وباتت قلقة اليوم للغاية من احتمال زعزعة استقرار علاقاتها مع موسكو بشأن سوريا على خلفية الحشد الإيراني على حدودها مع لبنان وسوريا، كما تشعر حكومة الأردن بالقلق حيال الأمن على حدودها، خاصة فيما يتعلق بتهريب المخدرات، بينما الإمارات والسعودية تكترثان لعلاقاتهما الوثيقة وطويلة الأمد مع موسكو، لا سيما في قطاع النفط باعتبارهما أعضاء في “أوبك بلس”.

ومن ناحية أخرى، تنظر العديد من هذه الدول إلى الولايات المتحدة على أنها قوة غير موثوقة في الشرق الأوسط ،وما يحدث في العراق واليمن من فلتان أمني مستمر وتسليم أفغانستان لتنظيم إسلامي متطرف والمماطلة في إيجاد حل عادل في سوريا.

كل ذلك جعل مصداقيتها في الشرق الأوسط على المحك، وبالمقابل تعتبر هذه الدول روسيا والصين ملاذاً آمناً في وجه هذا الواقع، لذا على واشنطن أن تعزز دعمها الدولي للدول التي تشهد صراعات ونزاعات داخلية قبل فوات الأوان، وتدفع بالمنطقة نحو الأمن والاستقرار ،وتسعى لوقف نزيف الهجرة من الشرق الأوسط إلى أوروبا، من خلال البحث عن الأسباب الحقيقية لقضية اللاجئين الذين يتم تهجيرهم بشكل ممنهج ومنظم، وبالتالي السلوك الفوضوي للولايات المتحدة في التعاطي مع الأحداث القائمة جعل قيادتها للعالم في خطر حقيقي ،ودفعت بالشعوب للبحث عن البديل، وبالتالي تصبح فرضية القطب الواحد في خبر كان مالم تعدل واشنطن من سياستها بشكل عادل حيال قضايا الشعوب المقهورة من الظلم والقمع والاستبداد.

الكاتب السياسي: علي تمي 

واشنطن وموسكو.. حرب النفس الطويل وتكسير العظام
واشنطن وموسكو.. حرب النفس الطويل وتكسير العظام

ملاحظة: “ما جاء في المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى