تحقيقات ستيب

غابات عفرين تتحول إلى صحراء جرداء وجهات نافذة تبني ثروات على حساب قوت الناس

مرّت 3 سنوات من سيطرة فصائل المعارضة السورية على مدينة عفرين شمال حلب، ومنذ ذلك الوقت تعرضت غابات عفرين إلى عملية قطع وتحطيب جائر وغير مدروس حوّلت مساحات شاسعة من غابات حراجية إلى ما هو أشبه بصحراء قاحلة.

 

غابات عفرين ثروة نباتية كبيرة

تعتبر مدينة عفرين من أشهر المناطق السورية بزراعة الأشجار سواء الحراجية أو المثمرة ولا سيما الزيتون، حيث قدّر عدد أشجار الزيتون بعفرين بنحو 13 مليون شجرة قبل الحرب في البلاد.

كما شكّل انتاج عفرين من الزيتون نحو خُمس إنتاج سوريا عامّة، وتأتي أهمية هذه الزراعة من كون شجرة الزيتون تمتاز بقدمها وطول عمرها وجودة عطائها وهي بحكم تركيبها الفيزيولوجي والمورفولوجي من أكثر الأشجار تحملاً لظروف البيئة، فهي تنمو في الأراضي الأقل خصوبة، كما أنها تزرع بعلاً في ظروف مطرية محدودة يصعب على الزراعات الأخرى تحملها.

إضافةً إلى عشرات أنواع الأشجار الحراجية التي كانت متواجدة في محيط المدينة وريفها، وأغلبها من الأشجار المعمّرة من أنواع “الصنوبر والكينا والبلوط” وغيرها العديد من الأنواع.

إلا أنّ عملية التحطيب الجائر في غابات عفرين حصدت بحسب معلومات محلية حصلت عليها وكالة “ستيب الإخبارية” أكثر من مليون وربع شجرة خلال عام واحد فقط، ومن بينها أشجار مثمرة أبرزها الزيتون.

التحطيب في غابات عفرين
التحطيب في غابات عفرين

يقول رائد شيخو، أحد أهالي مدينة عفرين، إنّ منطقة عفرين تبلغ مساحتها نحو3850 كيلومتراً مربعاً وتضم نحو 350 قرية وبلدة من أهمها عفرين المدينة وجندريس وبلبلة وراجو وشران وميدان اكبس وكفر جنة وميدنكي.

ويضيف: أملك أرضاً أنا وأخوتي يوجد فيها ألف وخمسمائة شجرة زيتون، وهي وراثة من الأجداد للأبناء منذ عشرات السنين، ومحصولها السنوي في أسوء مواسمه يقارب ٢٠٠٠ ألفي تنكة زيت صافي تتقاسمه أكثر من ٣٠ عائلة بين أعمام وأخوة وحصص الإناث، يعني ما يقارب ١٥٠ فرداً يعيشون من منتوج هذه الأرض.

ويتابع: اليوم بعد عمليات القطع لأشجار عمرها ما بين عشر سنوات إلى ٣٠ سنة ومنها ما وصل إلى خمسين عام، وما بين المواشي التي تأكل أوراقها قبل حملها وتسبب بمرض الأشجار، وما بين عدم إمكانية خدمتها مالياً بشكلٍ جيد من أسمدة وتقليم صحيح، انخفض موسمنا ما بين ٣٥٠ إلى ٤٠٠ تنكة زيت وهذا منذ سيطرة فصائل المعارضة على المنطقة.

ويؤكد أنّ عمليات قطع الأشجار في عفرين مستمرة ليلاً نهاراً إلا أنّه لا يوجد من يستطيع الوقوف بوجه “سلطات الأمر الواقع” خوفاً من عمليات انتقامية، ويشير إلى أنّه رغم وجود الحواجز العسكرية والدوريات الأمنية إلا أنه لم يشهد محاسبة أي أحد من قاطعي الأشجار.

 

جريمة بحق الإنسانية

سامر مهنا، وهو مدني أيضاً من مدينة عفرين، يقول: جريمة تحصل في أشجار عفرين، وجريمة بحق الأهالي وقوت يومهم، وجريمة بحق الطبيعة وتاريخ عفرين، ما يحصل جريمة، والسكوت عنه جرم أكبر، لقد عمل الأهالي المزارعين على نقل شكواهم لأغلب السلطات دون جدوى.

ويتحدث عن أنّ شجرة الزيتون قد تكلّف المزارع ٣ سنوات حدّ أدنى من الاعتناء بها حتى يجني منها المحصول وهناك أشجار عمرها يصل لخمسين عاماً وتقطع بدقيقة على مرأى صاحبها دون أن يستطيع أن ينطق كلمة واحدة، حسب وصفه.

ويتابع: من يقوم بقطع الأشجار المثمرة وخصوصاً الزيتون يتذرّع بأنها من أملاك مقاتلين تابعين لميليشيات كردية، إلا أنّ الأهالي سئموا تلك الحجج وملّوا حتى من خدمة أشجارهم خوفاً من قطعها المفاجئ كما جرى مع غيرها.

ويلفت إلى أن حطب الأشجار بات وقود التدفئة الأساسي بالمنطقة، مما دفع ضعاف النفوس والجهلة من مدنيين وعسكريين إلى قطع الأشجار لبيعها دون النظر إلى حجم الكارثة التي تخلفها في المستقبل، ويقول: رغم إصدار عدة قرارات من قبل المؤسسات الرسمية والأتراك بمنع قطع الأشجار ومحاسبة الفاعلين، لكن للأسف لم تختفي تلك الظاهرة التي تكاد تنهي أشجار عفرين وأهلها معها إن لم يتوقف هذا النزيف.

التحطيب في غابات عفرين
التحطيب في غابات عفرين

ويؤكد أنه لم يكن هناك محاولة جدّية من قبل الجهات الرسمية والسلطة التنفيذية بوقف هذه الأعمال، حيث تمّ قطع أحراش بحالها عن بكرة أبيها، وأصبحت عشرات العائلات بدون عمل ومعيشة بعد فقدان أشجارهم بشكلٍ كامل.

ويضيف “مهنا”: لقد علمت من أحد أقربائي أنّ هناك في جنديرس أحد المواطنين اشترى حطب تدفئة لمنزله من أحد التجار، وهي أشجار قطعت من أرضه قبل أيام وهو شاهدهم بعينة ولم يجرؤ على محاسبتهم، حيث أنهم مجموعة من المدنيين شركاء لمجموعة عسكرية نافذة السلطة في المنطقة، ولقد شاهدت بعض الأراضي وهي أشبه بصحراء قاحلة، وجبال عفرين لم تعد خضراء وعفرين قريباً لن يبقى فيها لا شجر ولا زيت.

التحطيب في غابات عفرين
التحطيب في غابات عفرين

اقرأ أيضاً: للتدفئة والتجارة.. أشجار الزيتون بعفرين تقطعها فصائل من “الجيش الوطني”

عشرات العائلات تضررت

من جانبه يقول “أبو جان”، وهو مدني من أهالي قرية بلبل في ريف عفرين: أول مرّة منذ عشرات السنين لا نملك حتى مؤنة المنزل من ثمارنا من دبس رمان وجوز ولوز وفستق حلبي وغيرها من المواد التي كانت أساسية في منازلنا، أصبحنا نشتريها من المحال ناهيك عن مواسم الزيت والزيتون التي انخفضت بسبب قطع وسرقة.

ويضيف: المحصول السنوي لا يكفينا مردوده لمعالجة أشجارنا للموسم القادم من أسمدة وأجور فلاحة وتعشيب وتقليم إن بقيت على حالها ولم تقطع.

أما محمد حمدو وهو أحد المتضررين من قطع الأشجار، يقول: أكثر الأشجار التي تضررت في عفرين هي الزيتون، لأن تعويضها يحتاج لسنوات، والسنديان الذي بلغ سعر طن الحطب منه نحو 130 دولار أمريكي حيث شكّل ثروة لقاطعيه.

ويضيف: باقي الأشجار التي تضررت مثل الجوز والرمان والتين والكرز، وسعر الطن من حطبها أقل حيث يصل إلى 100 دولار، أما الأشجار الحراجية مثل الصنوبر والسرو والبلوط قطع أغلبها من غابات عفرين وكادت تختفي تماماً.

ويشير “حمدو” بشكل غير مباشر إلى قوات المعارضة المدعومة تركياً التي تسيطر على المنطقة منذ 3 سنوات، حيث يتحدث عن قرارات وهمية لمنع التحطيب بينما معظم تجار الحطب من المقربين من تلك الفصائل.

التحطيب في غابات عفرين
التحطيب في غابات عفرين

اقرأ أيضاً: خاص|| فرض إتاوات على موسم زيتون أهل عفرين والرافض يُعاقب بقلع أشجاره

ما الأضرار البيئية نتيجة قطع غابات عفرين

وفي حديث مع المهندس الزراعي، وليد حداد، حول الأضرار الناجمة عن عملية القطع الجائر في غابات عفرين يقول: الغطاء النباتي من أركان البيئة، ويتكون من أشجار حراجية وتحت حراجية وحشائش، ويختلف نوع الأشجار من مكان لآخر حسب الظروف البيئية، وتعتبر مصفاة البيئة.

ويضيف: الأشجار الحراجية تتميز بأنها بطيئة النمو ومعمّرة، ودائمة الخضرة مثل أشجار السرو والصنوبر والكزورينا والكينا والمخروطيات، وببعض المناطق مثل عفرين يعتبر الزيتون المثمر أيضاً من الأشجار الحراجية لأنه يعيش هناك منذ القدم وبدون تتدخل الإنسان بمساحة كبيرة منها.

ويؤكد أنّ أهم المخاطر التي تلاحق الغابات والغطاء النباتي هو الرعي الجائر والحرائق ومؤخراً عمليات التحطيب الجائر التي انتشرت بالمناطق السورية.

ويتابع: إنّ عملية قطع الأشجار الحراجية هي عملية مدمّرة للغابات، وترقى أن تكون جريمة ضد الإنسانية، والسبب أنّ الأشجار الحراجية فيها ما يسمى برعم قائد وهو يكون بمكان عالِ وحسب التركيب الهرموني لها عند قطعها لا تعد قادرة على الانتاج من جديد، كما أنّ قطع الشجرة يؤثر على النباتات التي تتغذى تحتها، والتأثير تراكمي يمتد إلى البيئة كاملة.

ويشدد على أنّ عملية استرجاع الغابات قد تمتد لسنوات وبعضها لا يقاس بمقدار زمني محدد، ولا ننسى الأهمية الكبرى للغطاء النباتي التي تحدثنا عنها.

ويؤكد المهندس الزراعي أنّ القطع الجائر يعتبر همّاً عالمياً حيث تعاني العديد من البلدان حول العالم من عملية القطع بدون ضوابط، بينما تبقى مهمة حمايتها على السلطات الحاكمة ووعي الناس، معتبراً أنه إذا غابت تلك العوامل فسوف يستغلها البعض لبناء مصالحهم.

التحطيب في غابات عفرين
التحطيب في غابات عفرين – التحطيب في غابات عفرين

قاطعي الأشجار يبنون ثروات

أحد قاطعي الأشجار، يدعى وليد السعيد، وهو اسم وهمي اتخذه خوفاً من ملاحقة أمنية، يقول: أريد العيش وإطعام أولادي في ظل انعدام فرص العمل في مناطقنا، ووجدت هذه الطريقة مربحة ولا تسبب ضرراً لأحد.

ويضيف: لدي شركاء في العمل بعضهم من قوات المعارضة، وأذهب ببعض الأحيان لقطع أشجار حراجية من مناطق بعيدة مثل الوديان والجبال حتى لا أجبر أن أتشارك مع أحد.

وبحسب مصادر محلية في المنطقة فإنّ طن الحطب يبدأ من 50 ويصل إلى أكثر من 150 دولار حسب نوع الشجر المحطّب وقدمه، وتجري تجارة التحطيب أمام أعين المؤسسات التابعة للمعارضة والفصائل العسكرية التي تغض الطرف، فيما تؤكد عدّة مصادر أنّ نسبة كبيرة من عائدات هذه التجارة تعود على جيوب قادات الفصائل المحلية التابعة للمعارضة في المنطقة.

التحطيب في غابات عفرين
التحطيب في غابات عفرين – التحطيب في غابات عفرين

وعلى الرغم من إصدار عشرات القرارات من قبل تلك الفصائل، إلا أنّ المصادر تؤكد بأنها لا تتعدى حبراً على ورق، وإن كان هناك بعض الضغوط من جهات فتجري عمليات ملاحقة محدودة يقع فيها الحطابين “الصغار” الذي لا يتبعون لأي فصيل ويمتهنون التحطيب لسد رمق ذويهم.

وتؤكد ذات المصادر المحلية بأنّ فصائل المعارضة المتواجدة في المنطقة والتي تنتشر حواجزها في كل الطرقات تسمح بعبور سيارات وشاحنات محملة بأطنان الحطب مقابل دفع مبالغ مالية من قبل التجار لتلك الحواجز كضريبة، وتنقل تلك الأحطاب للبيع في أسواق مناطق شمال الفرات ومحافظة إدلب وبعضها إلى معامل الفحم.

اقرأ أيضاً: أبرز المحطات التي مرت بها عفرين خلال سنين الثورة السورية

ويبدو أنّ مشكلة التحطيب الجائر والقطع العشوائي غير المدروس في غابات عفرين مع استمرار غض الطرف من الفصائل العسكرية بسبب الاستفادة المالية وبناء ثروات، ومع تجاهل منظمات المجتمع المدني ومؤسسات المعارضة لحجم الكارثة، سيجعل عفرين بوقتٍ ليس بالبعيد فاقدةً لواحدة من أكثر ما تميزت به على مدة عقود من خلال أشجارها المثمرة والحراجية، ولعل غياب الرادع أباح لضعاف النفوس استغلال الواقع وهو ما سيدمّر إرث عفرين التاريخي إذا لم تصحو ضمائر المعنيين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى