مقال رأي

هل تحاول واشنطن “تأديب” بوتين بأوكرانيا.. وهل مقايضة كييف بدمشق قابلة للتطبيق!؟

هل تحاول واشنطن “تأديب” بوتين بأوكرانيا؟

لماذا أوكرانيا؟

روسيا ترى اليوم أن أوكرانيا بالنسبة لها تشكل حزام الأمان من الجهة الجنوبية الغربية، فهذا البلد الذي يقع ضمن القارة الأوروبية، يتحدث سكانه اللغة الروسية، وتعتبر روسيا أوكرانيا جزءًا لا يتجزأ من روسيا الاتحادية (تاريخياً)، والتي كانتا سوياً جزءًا من منظومة الاتحاد السوفياتي الذي تفكك في عام 1991.

الروس ينظرون اليوم إلى الأوكرانيين على أنهم “أمة واحدة”، ولكن هناك من يدير “مشروعاً مناهضاً” ضدها في هذا البلد، والمقصود منه هنا (النخبة الحاكمة) ويحاول ضمها إلى الناتو بحسب قادة الكرملين وعلى خلاف ما تعهد به الغرب لموسكو من خلال اتفاق أبرم فيما بينهم سابقاً.

وللعلم، الأوكرانيون يكرهون اتفاقات “مينسك “وتنفيذها على الطريقة الروسية والتي قد تؤدي إلى أعمال شغب وفوضى وإعادة هيمنة موسكو على هذا البلد.

استعداد للغزو

حشدت موسكو ما يقارب من 100 ألف عسكري على حدود أوكرانيا استعداداً للغزو. مطالب موسكو تتلخص بمنع ضم هذا البلد بالذات إلى الناتو وتطالب الغرب التعهد بالتزاماتها وعدم توسيع الحلف نحو أوروبا الشرقية وضم بلدان جديدة إليه، فيما يبدو أن الغرب يحاول كسر هذه المعادلة وانتزاع ورقة إضافية من موسكو لخلق توازن مع الملف السوري، الماكينة الإعلامية الغربية في الآونة الأخيرة كانت تستفز موسكو وتحرضّها لغزو أوكرانيا، زعماء الغرب بدورهم يطلقون تصريحات استفزازية ضد “بوتين” بغية استدراجه إلى المستنقع الأوكراني، ويبدو أن الأخير فهم اللعبة والمخاطر المحدقة به ويحاول اليوم التخفيف من حدة التوتر على حدود أوكرانيا والتظاهر بانتهاء مناوراته العسكرية على الحدود وانسحاب جيشه إلى قواعده العسكرية السابقة.

استبدال سوريا بأوكرانيا.. هل هذا السيناريو قابل للتطبيق؟

هذا الخبر اليوم أصبح حديث الساعة، وتتداوله الصحافة الأمريكية والعالمية، فتمدد الناتو نحو أوروبا الشرقية ومحاولة ضم دول جديدة إلى هذا الحلف لم تتوقف يوماً ولن تتوقف، بوتين الرجل الاستخباراتي السابق الذي أمضى جل حياته في عالم الجاسوسية والغموض يشكل اليوم صندوق أسرار يحمل في جعبته الكثير من الخبايا التي من الصعب الكشف عنها أو سبر أغوارها‏.‏

هذا الرجل “بوتين” أدرك أخيراً أن مطامع الغرب لن ينتهي عند حدود روسيا والناتو يحاول فرض عليها القواعد المعمول بها في العالم، واستباقاً لما وصلنا إليه اليوم، وفي 2015 أرسل”بوتين ” جيشه إلى سوريا وكانت الأزمة السورية بمثابة فرصة جاءت على طبق من ذهب، فهدفه القريب كان تتخلص بحماية النظام في دمشق للمحافظة على الشرعية السياسية لقواته في سوريا لكن الأهداف البعيد هو التقرب من قواعد الناتو داخل تركيا وتحديداً قاعدة “الانجرليك” النووية، فبوتين كان يعلم أن الناتو لن يتراجع عن أوكرانيا والمطالبة بإعادة شبه جزيرة القرم وضمها إلى هذا البلد هي مسألة الوقت كما صرح به منذ أيام مالم تكن هناك قوة موازية تردع الغرب وتمنعهم من ضم أوكرانيا إلى الناتو فاستخدمت ورقة سوريا لخلق توازن وإعادة اعتبار لجيشه في الشرق الأوسط.

من جهةٍ ثانية، بات واضحاً أن اللهجة الروسية حيال تركيا متشائمة كونها دولة صاعدة في المنطقة في ظل قيادة أردوغان، فتطالبها اليوم بالكف عن تنمية التعاون العسكري التقني مع “كييف” وعدم التقرب من الخطوط الحمر، وأنقرة بدورها تزعجها وتقلقها أيضاً تمركز الجيش الروسي على حدودها الجنوبية فهي الأخرى باتت محاصرة عسكرياً من روسيا بالتالي مضطرة على دعم أوكرانيا حتى تتمكن من ردع الروس ومنعهم من اللعب بقواعد العسكرية والجغرافية الأساسية في المنطقة، ولخلق توازن في القوة على الأرض وتحديداً داخل سوريا، وبالتالي رغم توسع دائرة الخلافات بين واشنطن وموسكو حول الملف الأوكراني والتصعيد الإعلامي فيما بينهم لكنهم متفقتان حول الملف السوري، فهما تتسابقان وضمن نوايا مشتركة لدفع الجغرافية السورية نحو التفكك من خلال إيجاد دويلة صغيرة في شرق الفرات كأمر واقع جديد في الشرق الاوسط وعلى العالم التعامل مع هذا الواقع بجدية و ضمن قواعد محددة.

ومن جهةٍ أخرى، بات واضحاً بأن هاتين الدولتين النوويتين ومعهما تل أبيب، يخشون من وصول تركيا إلى 2023، بالتالي تنتهي مفاعيل الاتفاقات التاريخية التي أبرمتها الحلفاء مع زعيم الاتراك ( كمال اتاتورك) بعد انهيار الدولة العثمانية وهي من نتائج حرب العالمية الأولى، وتعبر فيما بعد تركيا إلى حقبة جديدة وتتحول مع الوقت إلى قوة عسكرية واقتصادية في العالم وبالتالي تعيد السيطرة على العالم الإسلامي على طريقة “الدولة العثمانية”، لكن هذا المرة بطريقة أكثر ديناميكية وأكثر تطوراً وتنظيماً.

فمن هنا نجد تقاسم المشترك للروس والأمريكيين لدعم منظومة حزب العمال الكردستاني في سوريا تحضيراً لمعركة 2023 ولعرقلة تركيا من الوصول إلى هذه الحقبة، وبالتالي لنقل الفوضى إلى داخل أراضيها قبل فوات الأوان وإشغالها بأزمات داخلية ومنعها من استثمار مواردها الطبيعية والبشرية.

معركة “تأديب” بوتين

تمتلك روسيا اليوم سلاحاً قوياً بيدها ضد الغرب وهو سلاح الغاز، تارةً تبتز أوروبا وتارةً أخرى تحاول التمركز العسكري في المياه الدافئة، فوجود عشرات القواعد الروسية داخل سوريا ليس محبةً بالنظام في دمشق كما يحلو للبعض تسميته إنما تحاول موسكو التمسك بورقتين؛ ورقة التمركز قرب قاعدة “الانجرليك” النووية، والأخرى تحاول أن تكون على مقربة من تل أبيب وتبتزهم من خلال ورقة الإيرانيين داخل سوريا.

إن تعمقنا أكثر فنجد أن موسكو فعلاً بحاجة إلى هاتين الورقتين لتحمي حدودها السياسية ولمنع الناتو من التقرب عليها.

عموماً بوتين بالأخير أدرك أن هناك فخّاً نُصِّبٕ له في أوكرانيا ويحاول الناتو استدارجه إلى هذا المستنقع، فاتخذ خطوات تراجعية وفهم اللعبة لكن يعلم أيضاً أن الغرب لن يتخلى عن ضم أوكرانيا إلى الناتو، وهذا أمر لا مفر منه ولهذا السبب يدرك بوتين أيضاً أن سوريا تعتبر بمثابة له حبل النجاة لتشكيل قوة موازية مابين جبهتي سوريا وأوكرانيا.

الصحافة الغربية تتحدث اليوم عن احتمال وجود المقايضة بين ملفي سوريا وأوكرانيا بمعنى أن يتخلى الغرب عن أوكرانيا مقابل أن تتخلى روسيا عن النظام السوري، مهما قيل عن هذه الكهنات أو دعنّا نقول – تسريبات- حول هذا الملف لكن بالمحصلة بوتين لن يتخلى عن ورقة سوريا لأنها بالنسبة له جاءت على طبق من ذهب، فتمركز الجيش الروسي داخل سوريا يخدم موسكو على أكثر من جبهة، وتجعل منها متحكمة بخيوط اللعبة في المنطقة، يمكنها استخدام ورقة حزب العمال الكردستاني ضد تركيا انطلاقاً من داخل سوريا، وابتزاز تل أبيب بورقة الميليشيات الإيرانية، وابتزاز واشنطن من خلال تمركز أسطولها وبوارجها الحربية داخل المياه الدافئة والتي كانت يوماً ما الوصول اليها حلماً، بالإضافة إلى أن “بوتين” بات يبتز الأوروبيين على الدوام بورقة الغاز، أيضاً التغازل الدائم مع “بكين” داخل أروقة مجلس الأمن وعقد اتفاقات تجارية فيما بينهم وضع الغرب في موقف لا يحسد عليه، وهذا التلاحم والتنسيق بين الدولتين النوويتين (جاءت على طريقة عدو عدوك صديقك)، كل ذلك دفع بالرئيس بايدن العجوز الذي لا يتحدث كثيراً على خلاف سلفه (ترمب) إلى إطلاق صافرة الإنذار إلى الأوروبيين مفادها استعدوا للحرب، وإن لم تحاصروا موسكو اليوم فستجدون أنفسكم محاصرين في يوماً ما.

الخلاصة: بناءً على كل ما ذكر، فإن الناتو لن يترك “بوتين” وهو يصرح ويمرح داخل سوريا، ويفلته من العقاب هذه المرة لأنه بالنسبة للغرب تجاوز خطوط الحمر ويحاول تغيير التوازنات الجيوسياسية في العالم والعمل على اللعب على حبل التناقضات ما بين واشطن وبكين وبالتالي مسالة ضم أوكرانيا إلى الناتو هي محسومة بالنسبة للغرب وحتى لو كلفهم حرب عالمية ثالثة، ومسألة الوقت لا أكثر لأن محاصرة “بوتين” باتت ضرورة بالنسبة لهم حتى يكف عن اللعب بتوازنات التي خلفتّها الحرب العالمية الثانية ومن ثم حرب الباردة، ومن هنا نستطيع القول أن موسكو ستكون أمام خيارين لا ثالث لهما إما الانزلاق نحو المستنقع الأوكراني المدعوم غربياً أو أن تلتزم الصمت حيال ضم “كييف ” إلى الناتو، بينما الاعتقاد السائد هو أن يقوم بوتين بنقل الكرة إلى الملعب السوري واللعب بورقتين، ابتزاز تل أبيب ( الحلقة الأضعف داخل الصراع الروسي الأمريكي ) و من خلال الميليشات الإيرانية وتحريضهم ضدّها في لبنان وسوريا حتى يرضخ الناتو ويكف على ضم كييف إليها، وورقة أخرى هي استخدام ورقة حزب العمال الكردستاني ضد أنقرة ومن خلالها الضغط على الأوروبيين وابتزازهم بورقة اللاجئيين حتى تردعهم الكف عن التدخل في دول الاتحاد السوفياتي السابق.

بالمحصلة ستبقى الجبهة الأوكرانية في حالة الثبات لأن بوتين لا يريد أن يرى حروباً قرب حدوده الجنوبية الغربية، وبالتالي التصعيد داخل الجبهة السورية بات أكثر فعالية واحتمالاً بالنسبة لموسكو، ونسطيع القول إن المعركة ستكون في أوكرانيا لكن الدخان على الأرجح سيكون في سوريا، وبناءً على ما ذكر فإن واشنطن ولندن مصرّتان على “تأديب” بوتين داخل أوكرانيا ومنحه درساً لكي لا ينساه طوال حياته، لهذا السبب تهرب الأخير من الانزلاق إلى المستنقع الأوكراني الذي حضّر الناتو نفسه لهذه المعركة بشكل جيد، وبالتالي التصعيد في جبهة اوكرانيا من المحتمل أن تدخل في حالة الثبات لكن الاحتمال الأرجح عودة سوريا إلى دوامة جديدة من الصراع والعنف والأمريكان يتذكرون جيداً ما فعله الروس في الحسكة موخراً من خلال إعادة ملف داعش إلى الواجهة ولهذا السبب معركة “تأديب” بوتين من قبل واشنطن ولندن باتت قاب قوسين أو أدنى رغم تأخرها وهو أمر لا مفر لكن نتجاهل حتى الآن إذا كانت في المستنقع الأوكراني أم داخل الحلبة السورية.

بقلم: علي تمي
كاتب وسياسي سوري
يكتب في العديد من الصحف العربية والدولية.

مقال رأي 1
هل تحاول واشنطن “تأديب” بوتين بأوكرانيا.. وهل مقايضة كييف بدمشق قابلة للتطبيق!؟

ملاحظة: “ما جاء في مقال الرأي يعبر عن رأي الكتاب ولا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى