تركيا تضع قدماً في “النظام العالمي الجديد” بمحور روسيا والصين وأردوغان يبدأ سياسة “الجناحين”
في خطوة مهمة أعلنت تركيا عن تقديم طلبها للانضمام إلى مجموعة بريكس، وهي كتلة اقتصادية تشمل خمسة من أبرز الاقتصادات الناشئة في العالم: البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب إفريقيا. يأتي هذا الطلب في وقت تشهد فيه السياسة الخارجية التركية تحولاً كبيراً، خصوصاً مع ازدياد التوترات مع الغرب وتفاقم التحديات الاقتصادية الداخلية، ولكن ما سر توقيت الطلب التركي، وهل سيؤثر ذلك على علاقتها بحلفائها الغرب ودول الناتو، لا سيما أن “بريكس” تنافس على إنشاء نظام عالمي جديد بعيداً عن هيمنة الغرب خصوصاً أمريكا.
وتهدف مجموعة بريكس إلى تعزيز التعاون الاقتصادي بين أعضائها، وإيجاد حلول لمواجهة الهيمنة الغربية، خصوصاً الولايات المتحدة، بحسب تصريحات كبار قادة المجموعة مثل الرئيس الروسي ونظيره الصيني.
ووفقاً لتصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فإن تركيا ترى في بريكس فرصة لتعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الاقتصادات الناشئة، في إطار سعيها لتقوية نفوذها العالمي والبحث عن بدائل للتحالفات الغربية التقليدية. بينما يعتبر انضمام تركيا إلى بريكس محاولة لتوسيع نطاق تحالفاتها خارج الحدود الجغرافية التقليدية لأوروبا والغرب، بحسب خبراء تحدثوا إلى وكالة “ستيب نيوز”.
سر توقيت الطلب التركي تزامناً مع مشاكلها الاقتصادية
يشهد الاقتصاد التركي تحديات كبيرة على مدار السنوات الأخيرة، وهو ما يعتبر دافعاً رئيسياً وراء التحركات التركية نحو بريكس. حيث تواجه تركيا تضخماً مرتفعاً وصل إلى مستويات غير مسبوقة، بالإضافة إلى تدهور قيمة الليرة التركية، مما تسبب في تراجع القوة الشرائية للمواطنين وارتفاع الديون الخارجية.
من خلال انضمامها إلى بريكس، تسعى تركيا إلى الاستفادة من العلاقات الاقتصادية القوية التي تجمع دول بريكس، والتي تمثل نحو 40% من التجارة العالمية.
يشير الدكتور محمد ربيع، الباحث في العلاقات الدولية والمختص في الشأن التركي، إلى أن “هذا التوقيت يعكس أهمية تعزيز تركيا لعلاقاتها مع الاقتصادات الناشئة، خصوصاً في ظل التحديات الاقتصادية التي تواجهها”.
ويقول: “بريكس، كونها مجموعة من الاقتصادات الكبيرة والناشئة، تقدم لتركيا فرصة لإعادة تنظيم سياستها الاقتصادية بعيداً عن الضغوط الغربية التي تصاحب غالباً العلاقات مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة”.
كما أن التحديات الاقتصادية المشتركة بين دول بريكس وتركيا تجعل من هذا التحالف الاقتصادي خياراً طبيعياً للبحث عن الحلول المشتركة وتبادل الخبرات، لا سيما أن الدول الأعضاء في بريكس مثل روسيا والصين تعاني من ضغوط اقتصادية مشابهة بسبب العقوبات الغربية، وهو ما يخلق أرضية مشتركة للتعاون في مواجهة هذه التحديات.
هل انضمام تركيا إلى بريكس يعتبر خروجاً من التحالفات الغربية؟
إحدى الأسئلة الأكثر تداولاً حول رغبة تركيا في الانضمام إلى بريكس هو ما إذا كانت هذه الخطوة تعني خروجاً تدريجياً من التحالفات الغربية، خاصة حلف الناتو والاتحاد الأوروبي.
وعلى الرغم من أن تركيا عضو في حلف الناتو منذ عام 1952، إلا أن علاقاتها مع الحلف والدول الغربية كانت متوترة في بعض الأحيان، خصوصاً فيما يتعلق بالسياسات التركية في الشرق الأوسط وتعاونها مع روسيا في مجال الدفاع.
ومع ذلك، يعتقد العديد من المحللين أن انضمام تركيا إلى بريكس لا يعني بالضرورة خروجاً كاملاً من التحالفات الغربية. يشير الدكتور محمد ربيع إلى أن “الانضمام إلى بريكس لا يعني خروج تركيا من التحالفات الغربية، ولكنها خطوة نحو تحقيق توازن بين مصالحها في الشرق والغرب”. ويؤكد أن بعض الدول في بريكس مثل الهند والبرازيل، تحافظ على علاقات قوية مع الغرب، مما يعني أن التعاون الاقتصادي ضمن بريكس لا يتعارض بالضرورة مع التحالفات التقليدية مع الغرب.
كما أن هناك حاجة لتركيا للحفاظ على توازن استراتيجي بين الشرق والغرب، خصوصاً أن الانضمام إلى بريكس يمكن أن يكون خطوة لتعزيز نفوذها الدولي دون المساس بعلاقاتها مع الدول الغربية.
ويوضح الدكتور كاظم ياور، الباحث المهتم بالشأن التركي أن “تركيا تبحث عن تعزيز نفوذها في الشرق، ولكنها في الوقت ذاته لن تتخلى عن تحالفاتها التقليدية مع الناتو والاتحاد الأوروبي”.
وسبق لدولة حلف لأمريكا الانضمام إلى بريكس، حيث انضمت السعودية أحد أبرز الحلفاء لواشنطن بالشرق الأوسط إلى المجموعة الاقتصادية مطلع عام 2024.
هل انضمام تركيا لبريكس بديلاً عن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؟
منذ عقود، كانت تركيا تسعى للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، إلا أن هذه المحاولات كانت تصطدم دائماً بعقبات سياسية واقتصادية. ومع إعلان تركيا عن نيتها الانضمام إلى بريكس، تثار التساؤلات حول ما إذا كان ذلك يعني تخليها عن طموحاتها الأوروبية. والاتحاد الأوروبي هو شريك اقتصادي وسياسي رئيسي لتركيا، حيث يعتمد الاقتصاد التركي بشكل كبير على التجارة مع دول الاتحاد.
يرى الدكتور محمد ربيع أن “الانضمام إلى بريكس ليس بديلاً عن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فالاتحاد الأوروبي يقوم على شراكة إقليمية وسياسية تختلف عن طبيعة التعاون داخل بريكس”.
ويقول: “بريكس تركز بشكل رئيسي على التعاون الاقتصادي وتبادل المنافع التجارية بين أعضائها، بينما يتطلب الاتحاد الأوروبي التزاماً بسياسات ومعايير معينة تشمل قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية، وهي قضايا كانت دائماً مثار جدل بين تركيا والاتحاد”.
في المقابل، يرى الدكتور كاظم ياور أن تركيا تدرك الآن أن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي قد لا يتحقق في المستقبل القريب، لذا فهي تبحث عن بدائل لتعزيز نفوذها على المستوى الدولي. يقول ياور: “أردوغان بات يعي تماماً أن الغرب لن يحقق جميع أهداف تركيا الاستراتيجية، وبالتالي بدأ يبحث عن شراكات جديدة في الشرق”.
تحول سياسة أردوغان الخارجية باتجاه الشرق
تحول السياسة الخارجية التركية نحو الشرق ليس وليد اللحظة، بل هو نتاج تراكمات اقتصادية وسياسية شهدتها تركيا خلال العقد الأخير. ومع تعثر العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، والعقوبات المفروضة على تركيا بسبب شراء نظام الدفاع الصاروخي الروسي S-400، بدأت تركيا في تعزيز علاقاتها مع روسيا والصين، والبحث عن شراكات جديدة خارج إطار التحالفات التقليدية مع الغرب.
يرى الدكتور محمد ربيع أن “أردوغان يحاول بناء تحالفات اقتصادية قوية ضمن خطته الكبرى المعروفة بخطة القرن التركية”، والتي تهدف إلى تعزيز مكانة تركيا كقوة إقليمية ودولية. هذا التحول يأتي في ظل فشل بعض السياسات التركية السابقة، خاصة تلك المتعلقة بالتدخلات في المنطقة العربية مثل سوريا ومصر وليبيا، وهو ما دفع تركيا إلى إعادة تقييم سياستها الخارجية والبحث عن تحالفات اقتصادية جديدة.
كما أن التعاون المتزايد بين تركيا وروسيا في مجالات الطاقة والدفاع، وكذلك تعزيز العلاقات مع الصين في إطار مبادرة الحزام والطريق، يعكس التحول الكبير في السياسة الخارجية التركية نحو الشرق. وفقًا للدكتور كاظم ياور، فإن هذا التحول يعكس “فشل السياسات الأمريكية في تحقيق الاستقرار في المنطقة المحيطة بتركيا”، مما دفع أنقرة للبحث عن شركاء جدد لتحقيق أهدافها الاستراتيجية.
هل يؤثر انضمام تركيا إلى بريكس على علاقتها بدول الناتو؟
من بين المخاوف الرئيسية التي أثيرت حول انضمام تركيا إلى بريكس هو تأثير ذلك على علاقاتها مع حلف الناتو. ويعتبر الناتو أحد الدعائم الأساسية للسياسة الأمنية التركية، وتركيا تلعب دوراً مهماً في الحلف نظراً لموقعها الجغرافي الاستراتيجي في قلب الشرق الأوسط.
على الرغم من هذه المخاوف، يرى المحللون أن انضمام تركيا إلى بريكس لن يؤثر بشكل كبير على علاقتها بالناتو. حيث سبق لتركيا وأن اتخذت خطوات مستقلة عن الحلف في العديد من القضايا، مثل تدخلها العسكري في سوريا وشراء نظام الدفاع الصاروخي الروسي S-400.
ويؤكد الدكتور محمد ربيع أن “انضمام تركيا إلى بريكس لن يؤثر على علاقاتها في الناتو، حيث أن تركيا لديها تاريخ من اتخاذ قرارات مستقلة دون الالتفات إلى ردود فعل الحلفاء”.
كما أن تركيا تمتلك مصالح استراتيجية عميقة مع دول الناتو، بما في ذلك التعاون العسكري والأمني، مما يجعل من غير المرجح أن يتأثر هذا التعاون بانضمامها إلى بريكس.
ويوضح الدكتور كاظم ياور أن تركيا “ستحاول الحفاظ على توازن في علاقاتها مع الناتو وبريكس”، حيث أن انضمامها إلى بريكس يعزز من نفوذها الدولي دون التأثير سلباً على تحالفاتها الغربية.
بريكس وخطتها الاقتصادية
مجموعة بريكس تأسست في عام 2009 بهدف تعزيز التعاون الاقتصادي بين الدول الأعضاء وتقليل الاعتماد على الهيمنة الاقتصادية للغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة. وتتمتع دول بريكس بنفوذ اقتصادي كبير، حيث تمثل هذه الدول نحو 25% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وتسعى إلى تعزيز التعاون فيما بينها لخلق بدائل للنظام المالي العالمي الذي يهيمن عليه الدولار الأمريكي.
وتسعى بريكس إلى تطوير أنظمة دفع جديدة واستخدام العملات المحلية في المعاملات التجارية بين الدول الأعضاء، مما يقلل من الاعتماد على الدولار الأمريكي ويساعد في حماية اقتصاداتها من الضغوط المالية الخارجية.
يشير الدكتور محمد ربيع إلى أن “أحد أهم أهداف بريكس هو إيجاد بديل للدولار في المعاملات التجارية، مما يسمح للدول الأعضاء بالتحرر من الضغوط الاقتصادية الأمريكية”.
كما تعمل دول بريكس على إنشاء بنية مالية جديدة تستطيع دعم المشاريع التنموية في الدول الأعضاء، دون الحاجة إلى الاعتماد على المؤسسات المالية الغربية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
توازن استراتيجي لتركيا
يعد طلب تركيا للانضمام إلى مجموعة بريكس يوضح العديد من العوامل الاستراتيجية والاقتصادية التي تدفع أنقرة نحو هذا التحالف، في ظل توتر العلاقات مع الاتحاد الأوروبي وبعض دول الناتو. على الرغم من أن بعض المراقبين قد يرون هذه الخطوة كتحول بعيداً عن الغرب، إلا أن تركيا تسعى إلى تحقيق توازن بين التحالفات التقليدية والشراكات الاقتصادية المتنوعة، دون التخلي عن عضويتها في الناتو أو علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي.
الدوافع الاقتصادية والاستراتيجية
تواجه تركيا تحديات اقتصادية كبيرة، منها التضخم وارتفاع الديون، إلى جانب تراجع قيمة العملة المحلية. في هذا السياق، يعتبر الانضمام إلى بريكس فرصة لتعزيز العلاقات مع القوى الاقتصادية الناشئة مثل الصين والهند، والاستفادة من التحالفات الاقتصادية التي لا تتطلب التزامات سياسية صارمة كما هو الحال مع الاتحاد الأوروبي أو الناتو.
وترى تركيا وفق الخبراء في بريكس منصة لتعزيز النمو الاقتصادي والتنويع التجاري، خاصةً أن عضوية الاتحاد الأوروبي لا تزال تواجه عقبات كبيرة. وفيما تستمر أوروبا في تأخير انضمام تركيا للاتحاد، يزداد الإغراء بالبحث عن بدائل تعزز اقتصادها المتضرر.
ورغم ذلك لا يزال الحديث مبكراً عن انضمام رسمي لتركيا إلى المجموعة، حيث سبق لهذه المجموعة أن رفضت طلب الجزائر بالانضمام إليها، رغم أن الجزائر من الحلفاء التقليديين لروسيا والصين.
العلاقة مع القوى الشرقية
الانفتاح على بريكس يعزز أيضاً من علاقات تركيا مع روسيا والصين، وهي دول تشكل تحدياً للنظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة. على سبيل المثال، تركيا تحافظ على علاقات قوية مع روسيا، لا سيما في مجالات الطاقة، حيث تعتمد على موسكو في توفير نحو 50% من احتياجاتها من الغاز الطبيعي.
وفي نفس الوقت، تسعى تركيا لتعميق علاقاتها الاقتصادية مع الصين التي تعتبر شريكاً اقتصادياً رئيسياً في آسيا. هذه العلاقات تعكس التوجه التركي نحو تعزيز شراكاتها الاقتصادية بعيداً عن الاعتماد الكامل على الغرب.
التحديات المستقبلية
ورغم الإغراءات الاقتصادية والسياسية لانضمام تركيا إلى بريكس، يبقى التحدي الأكبر هو إدارة العلاقة مع الاتحاد الأوروبي والناتو.
ولا تزال تركيا تعتمد بشكل كبير على التجارة مع الاتحاد الأوروبي، إذ تشكل أكثر من نصف تجارتها الخارجية. لذلك، فإن أي خطوة تُفسَّر على أنها ابتعاد عن التحالفات الغربية قد تثير ردود فعل سلبية من أوروبا والولايات المتحدة.
ويبدو أن الرئيس رجب طيب أردوغان يسعى إلى تحقيق توازن دقيق بين الشراكات الاقتصادية مع الشرق والالتزامات الأمنية مع الغرب. وتدرك تركيا أن مستقبلها يعتمد على قدرتها على المناورة في هذا المشهد المعقد، حيث تحاول تحقيق أقصى استفادة من كلا الجانبين دون التفريط في أحدهما فيما وصفه أحد الخبراء بأنه سياسة “الجناحين”.