اكتشاف قرية العصر البرونزي في وادي خيبر.. شواهد جديدة على التوسع الحضري في السعودية قبل 4000 عام
اكتشاف أثري مثير في السعودية يكشف عن “قرية من العصر البرونزي” في وادي خيبر تعود إلى ما يقارب أربعة آلاف عام، حيث أظهرت ملامح من “التوسع الحضري” الذي سمح بدراسة خصائص المستوطنات في شمال غرب الجزيرة العربية. وقد أعلنت بعثة أثرية عن اكتشاف موقع أثري استثنائي في السعودية يعود تاريخه إلى العصر البرونزي، حيث تم العثور على قرية تُدعى “النطاة”، وهي بلدة محصّنة تمتد على مساحة تقدر بحوالي 2.5 هكتار (0.025 كيلومتر)، وقد بُنيت تقريباً بين عامي 2400 و2000 قبل الميلاد واستمرت حتى 1500 قبل الميلاد، وربما إلى 1300 قبل الميلاد مع احتمالية وجود فترات توقف.
وأعلنت الهيئة الملكية لمحافظة العلا بالمملكة العربية السعودية، يوم السبت، اكتشاف هذه “القرية الأثرية من العصر البرونزي” في واحة خيبر شمال غرب المملكة، وذلك ضمن دراسة أثرية جديدة نشرتها مجلة “بلوس ون” العلمية.
قرية العصر البرونزي مدفونة تحت صخور البازلت
يقع وادي خيبر على أطراف حقل حرة خيبر البركاني، حيث تشكلت واحة خيبر عند التقاء ثلاثة أودية في منطقة ذات مناخ جاف. على الأطراف الشمالية لهذه الواحة، اكتُشفت قرية “النطاة” الأثرية التي كانت مدفونة تحت طبقات من صخور البازلت لمئات السنين. كشفت الحفريات أن بلدة النطاة، التي يعود تاريخها إلى ما بين 2400 و1500 قبل الميلاد، كانت تتكون من منطقة مركزية وأخرى سكنية محاطة بجدار دفاعي، كما احتوت على مقبرة توضح ممارسات دفن تشير إلى تفاوت اجتماعي بسيط.
وادي خيبر يكشف أسرار “التحضر المنخفض” ويعيد رسم بدايات الحياة الحضرية في الجزيرة العربية
توصل الباحثون إلى تقدير يقارب 500 نسمة لسكان بلدة وادي خيبر الأثرية، التي تتميز بتصميم وتنظيم مشابه لمواقع أثرية أخرى من العصر البرونزي المبكر والمتوسط المنتشرة في شمال الجزيرة العربية. إلا أن بلدة خيبر، رغم تشابهها مع تلك المواقع، كانت أقل تعقيداً من الناحية الاجتماعية والسياسية بالمقارنة مع مثيلاتها في بلاد الشام وبلاد الرافدين، التي شهدت نشوء مراكز حضرية معقدة وقوة سياسية متطورة. ويشير هذا الاكتشاف إلى وجود “تحضر منخفض” في الجزيرة العربية، وهو مفهوم يعبر عن مرحلة انتقالية نحو النمط الحضري المبسط، حيث كانت الجزيرة موطناً لمجموعة من البلدات الصغيرة المحصنة التي تبرز بدايات التمدن ونشوء المجتمعات المستقرة.
هذه المستوطنات، رغم حجمها الصغير، تشكل علامة بارزة على التحول من المجتمعات البدوية إلى الحياة الحضرية المستقرة، ما يكشف عن تطور تدريجي في البنية الاجتماعية والتنظيمية لأهل المنطقة.
ويعكس مصطلح “التحضر المنخفض” مرحلة مميزة من تاريخ الجزيرة العربية، حيث لم تكن المستوطنات كبيرة أو معقدة كالمراكز الحضرية في بلاد الرافدين وبلاد الشام، لكنها رغم ذلك تمثل خطوة نحو التمدن، إذ ساهمت هذه المستوطنات الصغيرة في إرساء أسس الحياة الحضرية التي شهدتها الجزيرة لاحقاً.
وادي خيبر: من مجتمع رعوي إلى مركز حضري مستقر
في وادي خيبر، بدأت تتشكل مراكز حضرية ذات أهمية كبيرة دعمت استقرار مجتمعاتها. قاد فريق البحث عالم الآثار جيوم شارلو من المركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا، مشيرًا في دراسته إلى أن وادي خيبر يمثل مرحلة الانتقال من الحياة الرعوية المتنقلة إلى المستوطنات الحضرية المستقرة. وتبرز الدراسة أن مناطق مثل خيبر لم تكن مجرد مراكز زراعية فحسب، بل أيضًا محاور تجارية حيوية تفاعلت مع المجتمعات المتنقلة، ما أثر بعمق على النموذج الاجتماعي والاقتصادي في المنطقة خلال العصر البرونزي.
وادي خيبر: ملامح حضرية متطورة تكشف أسرار الحياة في قرية النطاة
تكشف الدراسة عن نمط حضري متطور في وادي خيبر، حيث عاش سكان قرية “النطاة” حياة منظمة ومعقدة تعكس ملامح تخطيط حضري متقدم. سكن أهل القرية في منازل تقليدية متعددة الطوابق، خصصوا الطابق الأرضي منها للتخزين، بينما كانوا يعيشون في الطوابق العليا. كانت الطرقات بين المساكن ضيقة، تؤدي إلى مركز القرية، مما يعزز التواصل والتنقل. ودفن السكان موتاهم في مدافن متدرجة، كما كانوا يستخدمون الخرز في ملابسهم، ويصنعون الفخار ويتاجرون به، ويعملون بالمعادن ويزرعون الحبوب. وقد اعتمد نظامهم الغذائي بشكل كبير على الأغنام والماعز، مع تعاون واضح بينهم لتقوية أسوارهم بالحجارة والطين.
ويكشف تخطيط القرية عن تنظيم عمراني، حيث تتصل المنازل عبر شوارع ضيقة تُيسر الحركة بين السكان، مشيرةً إلى نمط حضري متأثر بالممارسات العمرانية في المناطق المجاورة. ويمتاز الموقع الاستراتيجي بوجود مسارات للتواصل، يمتد أحدها على المحور الشرقي الغربي للوادي، بينما يرتبط الآخر بطريق يصل إلى تيماء شمالاً والمدينة جنوباً. أما اليوم، فتحتوي المنطقة على أراضٍ زراعية مهجورة وبعض المزارع، بارتفاع متوسط يتراوح بين 710 و715 متراً، وتحيط بها عدة آبار توفر إمدادات مياه جيدة، مما يشير إلى استدامة المياه في تلك الفترة