أسرار لأول مرة عن سجن صيدنايا.. تاريخ من الانتهاكات والمصير المحزن لـ30 ألف معتقل منذ عام 2011
أُنشئ سجن صيدنايا في ثمانينيات القرن الماضي، وحاز على سمعة مروعة جعلت منظمة العفو الدولية تطلق عليه وصف “المسلخ البشري”، مشيرة إلى أنه المكان الذي “تذبح فيه الدولة السورية شعبها بصمت”.
ويُعدّ سجن صيدنايا من أكثر المواقع غموضًا وسرية على مستوى العالم، واسمه كفيل بإثارة الخوف في قلوب السوريين، إذ ارتبط بذكريات الفقدان والغياب القسري للأحبّة. كما خلّد في الذاكرة الجماعية للسوريين مشاهد الحزن والمعاناة، وفقًا لما ذكرته رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا.
يُعد سجن صيدنايا واحدًا من أكثر السجون العسكرية السورية تحصينًا، ولاقى شهرة سوداء بلقب “المسلخ البشري” بسبب ما يشهده داخله من تعذيب وحالات حرمان واكتظاظ شديد. كما عُرف بـ”السجن الأحمر” نسبةً للأحداث الدامية التي اندلعت داخله عام 2008، ما أضاف إلى سمعته المخيفة في ذاكرة السوريين.
أين يقع سجن صيدنايا
يقع سجن صيدنايا على بُعد 30 كيلومترًا شمال العاصمة دمشق، بالقرب من دير صيدنايا. أُنشئ عام 1987، وينقسم إلى قسمين رئيسيين: الأول يُعرف بـ”المبنى الأحمر”، ويُخصص للمعتقلين السياسيين والمدنيين، بينما يُطلق على القسم الثاني “المبنى الأبيض”، وهو مخصص للسجناء العسكريين.
تقدر مساحته بحوالي 1.4 كيلومتر مربع، ما يعادل “ثمانية أضعاف المساحة الإجمالية لملاعب كرة القدم الدولية في سوريا
سجن صيدنايا: تصميم محصن وهيكل يعزز العزلة
يعد سجن صيدنايا من أشد السجون العسكرية السورية تحصينًا، بفضل تصميمه الذي يتألف من ثلاثة مبانٍ رئيسية تلتقي في نقطة مركزية تُعرف باسم “المسدس”.
يتألف كل مبنى من ثلاثة طوابق، ولكل طابق جناحان، يضم كل جناح 20 مهجعًا جماعيًا بمساحة 8 أمتار طولًا و6 أمتار عرضًا. تتراص المهاجع في صف واحد بعيدًا عن النوافذ، مع مشاركة كل أربعة مهاجع لنقطة تهوية واحدة فقط.
تُعتبر نقطة “المسدس” أكثر مناطق السجن تحصينًا، حيث تحتوي على الغرف الأرضية والسجون الانفرادية. تخضع هذه المنطقة لرقابة مشددة على مدار الساعة لمنع المساجين من رؤية تفاصيل بناء السجن أو التعرف على وجوه السجّانين.
تصنيف المعتقلين في سجن صيدنايا حسب التهم والانتماءات
كان من المعتاد أن يتم توزيع المعتقلين داخل أقسام سجن صيدنايا بناءً على التهم السياسية الموجهة إليهم، حيث ضم السجن فئات متنوعة من المعتقلين، أبرزهم:
- معتقلو التيارات الإسلامية: مثل أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، وحزب التحرير الإسلامي، وحركة التوحيد الطرابلسية.
- معتقلون لبنانيون: ينتمون إلى أطراف معارضة للنظام السوري.
- معتقلون فلسطينيون: متهمون بعلاقات مع المعارضة السورية.
- الشيوعيون والأكراد: من مختلف الأحزاب والتيارات.
- عسكريون سوريون: متهمون بجرائم أو مخالفات داخل المؤسسة العسكرية.
هذا التنوع يعكس الطابع السياسي لسجن صيدنايا، الذي أصبح رمزًا للقمع والاستبداد.
يؤدي هذا الاختلاف في التقسيم إلى تفاوت في طريقة المعاملة، حيث يوضح التحقيق أن “المعتقلين الأمنيين يتعرضون لتعذيب منهجي، بالإضافة إلى حرمانهم من الطعام والرعاية الصحية، في حين يعاني المعتقلون القضائيون من تعذيب غير ممنهج، وغالبًا ما يحصلون على زيارات دورية ومستوى مقبول من الطعام والرعاية الطبية”.
بشكل عام، كان النظام السوري يعتبر المعتقلين في السجون “عملاء وخونة”، مما دفعه إلى سلبهم أي حقوق إنسانية، مما أدى إلى استباحة حياتهم بشكل كامل.
طرق التعذيب المروعة في سجن صيدنايا
يعاني السجناء في سجن صيدنايا من أشد أساليب التعذيب وحشية، إذ يتعرضون للضرب المستمر بأدوات مختلفة، مثل الخراطيم وأنابيب التمديدات الصحية والهراوات. ومن أساليب التعذيب البشعة المستخدمة ما يُعرف بـ”بساط الريح” أو “السجادة الطائرة”، حيث يُربط السجين على لوح قابل للطي، ويوضع وجهه للأعلى، ثم يتم طي اللوح لتعذيب جسده.
ويُحرم السجناء من الرعاية الصحية والأدوية، في حين يُستخدم التهديد بالاغتصاب كأسلوب لترهيب النساء أمام أقاربهن، وفقًا لمنظمة العفو الدولية، مع تسجيل حالات اغتصاب وتحرش جنسي بحق الرجال والنساء.
وتظهر وحشية التعذيب أيضًا في إجبار السجناء على اتخاذ قرارات مروعة، مثل اختيار موتهم أو قتل أحد أقاربهم أو معارفهم، كما روى أحد الناجين من هذا السجن الرهيب.
إعدامات وتعذيب ممنهج بين 2011 و2015
بين عامي 2011 و2015، كانت أوضاع السجون في غاية السوء، حيث شهدت تراجعًا في أعداد السجناء نتيجة عمليات التصفية. وفقًا للتحقيق، أعدم النظام السوري ما بين 30 إلى 35 ألف معتقل خلال 10 سنوات، إما بشكل مباشر أو تحت التعذيب، أو بسبب قلة الرعاية الطبية والتجويع.
كانت عمليات الإعدام تتم بشكل دوري، بمعدل يومين في الأسبوع، في حين توضح الرابطة الحقوقية أن “المعتقلين لا يُبلّغون بقرار الإعدام، بل يُنقلون مساءً ليتم تنفيذ الحكم في اليوم نفسه أو في اليوم التالي”.
كان حضور الإعدام يشمل رئيس القلم الأمني، مدير السجن، النائب العام العسكري في المحكمة الميدانية، اللواء قائد المنطقة الجنوبية، ضابط من شعبة المخابرات، رئيس فرع التحقيق (248)، أحد أطباء السجن، وأحيانًا “رجل دين”، بالإضافة إلى رئيس المحكمة الميدانية العسكرية، وهي الجهة المسؤولة عن إصدار الحكم.
وأشار التحقيق إلى وجود غرفتي إعدام، الأولى في “البناء الأبيض” والثانية في “البناء الأحمر”، حيث تتم عملية الإعدام شنقًا باستخدام عدة منصات في كلتا الغرفتين.
جرائم بشعة تشهدها غرف الملح
غرف الملح هي غرف تُغطى أرضيتها بالملح بارتفاع يتراوح بين 20 و30 سنتيمترًا، وتُستخدم لتعذيب المعتقلين نفسيًا. كما تُوضع فيها جثث المعتقلين الذين فارقوا الحياة نتيجة التعذيب أو التجويع.
يتم كتابة رقم على كل جثة، ثم تُترك في الملح لمدة 48 ساعة قبل أن تُنقل بواسطة سيارة نقل المعتقلين إلى مشفى تشرين العسكري لتشريح الجثة وإصدار شهادة وفاة. بعد ذلك، تُرسل الجثة إلى فرع السجون في الشرطة العسكرية ومن ثم إلى المقابر الجماعية.
تقرير يكشف هيكل المنظومة الأمنية لسجن صيدنايا
سلط تقرير صادر عن رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا الضوء على الهيكل الأمني المعقد للسجن، الذي يتألف من ثلاث مستويات رئيسية لضمان السيطرة المطلقة.
الشرطة العسكرية:
تمثل خط الدفاع الأول، وتتبع للفرقة الثالثة في الجيش السوري، وتضطلع بمهمة حماية الجدران الخارجية من أي تهديدات أمنية، بالإضافة إلى منع هروب المعتقلين.
اللواء 21:
وحدات من هذا اللواء التابع للفرقة الثالثة تتولى تأمين الأجزاء الداخلية للسجن، مع التركيز على مراقبة المعتقلين وإخضاعهم لإجراءات تأديبية.
حقول الألغام:
يحيط بالسجن حقلان من الألغام؛ الأول داخلي ومضاد للأفراد، والثاني خارجي ومضاد للدبابات، مما يضمن منع أي محاولات للهروب أو الاقتحام.
وحدة الاتصالات:
تختص بمراقبة جميع الاتصالات الأرضية واللاسلكية الواردة إلى السجن والصادرة منه، إلى جانب الاتصالات اللاسلكية في محيطه.
هذا النظام الأمني المتكامل يجعل سجن صيدنايا من أكثر السجون إحكامًا وتحصينًا في العالم.
مركز الإعدامات والتعذيب الممنهج في سجن صيدنايا
في فبراير/شباط 2017، دعت منظمة العفو الدولية الأمم المتحدة إلى إجراء تحقيق مستقل في الانتهاكات الجارية داخل سجن صيدنايا، بعد أن كشف تقرير عن إعدام نحو 13 ألف معتقل شنقًا بين عامي 2011 و2015. وبحسب التقرير، يتم اقتياد ما بين 20 و50 شخصًا إلى المشنقة أسبوعيًا، عادةً في منتصف الليل.
كما أفادت وزارة الخارجية الأميركية في العام نفسه بأن النظام السوري لجأ إلى إحراق جثث آلاف السجناء داخل السجن، في محاولة للتخلص من الأدلة التي قد تثبت ارتكابه جرائم حرب.
وتتفاقم معاناة المعتقلين في صيدنايا بطرق تعذيب وحشية، حيث يتم حرمانهم من الطعام والماء لعدة أيام، ما يدفعهم أحيانًا إلى شرب بولهم للبقاء على قيد الحياة، وفق شهادات أدلى بها معتقلون سابقون.
تلك الانتهاكات تجعل من سجن صيدنايا رمزًا مرعبًا للقمع والتعذيب في سوريا.
تغيرات حدثت في سجن صيدنايا أدت إلى بداية مرحلة جديدة من القمع
شهد سجن صيدنايا تغيرات طفيفة في حياة المعتقلين خلال فترة تولي العقيد لؤي يوسف إدارة السجن، حيث وُصف بأنه “متفهم ومنفتح”. حاول يوسف تغيير السياسات العامة للسجن، فسمح لعائلات السجناء بزيارة ذويهم، وكان يتواصل مع المعتقلين بشكل شخصي، وعدًا بتحسين معاملتهم. من أبرز قراراته دمج المعتقلين في الغرف دون النظر إلى التهم الموجهة لهم، ما أدى إلى جمع معتقلين إسلاميين مع آخرين متهمين بالتجسس لصالح إسرائيل، مما أسفر عن توتر شديد بين السجناء، وصل إلى جريمة قتل في نهاية عام 2005.
مع تعيين المدير الجديد علي خير بيك، بدأت مرحلة جديدة من القمع في السجن، حيث تم فرض عقوبات مشددة، بما في ذلك قطع التيار الكهربائي عن السجن لعدة أشهر. في مارس 2008، اكتشف أحد السجانين وجود خط كهربائي داخل أحد المهاجع، وعند محاولة معرفة مصدره، بدأ مدير السجن في تعذيب رئيس جناح المهجع، ثم تبع ذلك تعذيب باقي السجناء، وأُرسل عدد منهم إلى الزنازين الانفرادية.
تمكن أحد السجناء من الهروب بمساعدة زملائه، واندلعت اشتباكات بين السجناء والسجانين، ما أدى إلى فتح أبواب الزنازين وخروج الوضع عن السيطرة. وتزامن التمرد مع استعدادات دمشق لاستضافة مؤتمر القمة العربية في 29 من الشهر نفسه، مما دفع السلطات لمحاولة احتواء الموقف بسرعة دون إثارة الانتباه، حيث وصل عدد من قادة الأجهزة الأمنية إلى السجن لعقد اجتماعات مع ممثلين عن السجناء.
انتهاء كابوس سجن صيدنايا: تحرير المعتقلين وسقوط النظام
تمكنت قوات المعارضة السورية في 8 ديسمبر 2024 من اقتحام سجن صيدنايا، حيث نجحت في تحرير جميع المعتقلين، وذلك بعد دخولها إلى العاصمة دمشق. وأعلنت المعارضة إسقاط حكم بشار الأسد، وأكدت انسحاب قواته من وزارتي الدفاع والداخلية ومطار دمشق الدولي.
وكانت فصائل المعارضة قد أعلنت في 27 نوفمبر من العام نفسه عن بدء معركة “ردع العدوان”، التي هدفت إلى توجيه “ضربة استباقية لقوات النظام السوري”. وتمكنت المعارضة في الأيام الأولى من السيطرة على مدن إدلب وحلب، ثم تابعت تقدمها إلى حماة وحمص.