تتصدر محافظة السويداء واجهة المشهد السوري مجدداً، بعدما أعلنت وزارة الخارجية السورية عن خارطة طريق لحل الأزمة التي تفاقمت منذ أحداث يوليو الماضي، ووضعتها في إطار "جهود وطنية-إقليمية مشتركة" تهدف إلى إعادة الأمن والاستقرار. الإعلان، الذي جاء بدعم وتنسيق مع الأردن والولايات المتحدة، سعى لتقديم صورة عن الدولة السورية كطرف مبادر يسعى للحل عبر خطوات تدريجية تشمل إعادة انتشار القوات، إطلاق المحتجزين، وضمان الحقوق المدنية.
غير أنّ هذا الطرح الرسمي اصطدم سريعاً بردّ حاد من اللجنة القانونية العليا في السويداء، التي رفضت الخطة ووصفتها بمحاولة "فرض وصاية جديدة"، في خطوة تكشف عمق الهوة بين الرؤية المركزية للدولة، والمطالب المتصاعدة للمكونات المحلية في الجنوب.
بنود خارطة الطريق: محاولة لالتقاط الخيط
بحسب بيان وزارة لخارجية السورية تشمل خارطة طريق الحل في السويداء عدة خطوات، منها سحب المقاتلين المدنيين من محيط السويداء ونشر قوات أمنية "منضبطة" مكانهم.
وتشكيل لجنة تحقيق مستقلة للتحقيق في أحداث يوليو وما رافقها من سقوط ضحايا، ومحاسبة المتورطين بالانتهاكات عبر القضاء السوري، وإطلاق سراح المحتجزين والمختطفين، أو اللجوء إلى مبادلات متفق عليها، ونشر قوات شرطة محلية مدرّبة لضمان أمن الطرق الحيوية والمؤسسات.
إضافة إلى استعادة مؤسسات الدولة والخدمات الأساسية، بما يشمل فتح صفحة جديدة للمصالحة الوطنية.
وفي قراءة أولية، تبدو البنود أقرب إلى صيغة وسطية تجمع بين البعد الأمني (ضبط السلاح والمقاتلين) والبعد السياسي-الخدماتي (تحقيق، إطلاق سراح، إعادة إعمار).
لكن كما يوضح الباحث السياسي السوري رضوان الأطرش، خلال حديث لوكالة ستيب نيوز: "هذه البنود منطقية نظرياً، إلا أن تنفيذها يصطدم بواقع متشابك: انتشار السلاح، انعدام الثقة بين الأهالي والحكومة، وتدخلات إقليمية، ونجاحها مرهون بقدرة الدولة على تقديم ضمانات حقيقية، وضبط الأمن دون اللجوء للعنف، وإشراك المجتمع المحلي في المتابعة."
الأردن يدخل على خط الأزمة: حسابات أمنية وإقليمية
مشاركة الأردن في رعاية خارطة الطريق مثّلت تطوراً لافتاً، فقد شددت الخارجية السورية على أن الخطة جرى التوافق عليها مع عمّان وواشنطن لضمان الدعم السياسي والتمويل اللوجستي.
هذا الدور الأردني لا يقتصر على الوساطة، بل يعكس – وفق محللين – هاجساً أمنياً مباشراً، فاستمرار الفوضى في السويداء يعني تهديداً لحدود الأردن الشمالية، التي تشكل خاصرة رخوة في ظل نشاط شبكات تهريب السلاح والمخدرات.
وفي هذا السياق، يوضح الأطرش: "الأردن يملك مصلحة مباشرة في استقرار السويداء لأنها خاصرة رخوة لأمنه القومي. وهو يحاول أن يكون اللاعب الإقليمي الذي يمسك بخيوط التسوية قبل أن تتمدد إسرائيل أو أطراف أخرى في الملف."
وبذلك، تتحول السويداء إلى ساحة اختبار لتوازن القوى الإقليمية، ليتبادر السؤال هل ينجح الأردن في تقليص النفوذ الإسرائيلي عبر شراكة مع دمشق؟ أم ستستمر تل أبيب في استغلال هشاشة الجنوب لتبرير تدخلها الأمني؟
موقف اللجنة القانونية العليا: رفض وصاية جديدة
ردّ اللجنة القانونية العليا في السويداء المكلفة بتسيير أمور المحافظة إدراياً، والتي عينها الشيخ حكمت الهجري، لم يتأخر، إذ اعتبرت أن خارطة الطريق تمثل "وصاية مركزية جديدة"، متهِمة الحكومة بمحاولة تجاوز مسؤوليتها عن الأحداث الأخيرة عبر ربط التحقيق بالقضاء المحلي الذي وصفته بـ"المسيّس والخاضع للسلطة التنفيذية".
اللجنة شددت على أن أي حل لا بد أن يبدأ بتحقيق دولي مستقل يضمن حقوق الضحايا، مؤكدة أن محاسبة الجناة عبر مؤسسات الدولة لن تكون سوى "إعادة إنتاج لسياسة الإفلات من العقاب"، حيث يظهر ذلك فقدان الثقة بالحكومة السورية بعد اعترافها بتورط أفراد من قواتها بارتكاب "أخطاء" خلال أحداث يوليو الفائت.
وهنا يرى الأطرش أن رفض اللجنة يعكس خليطاً من التعنت وحسابات المكانة السياسية: "اللجنة تريد أن تظهر بمظهر المدافع عن مصالح السويداء ضد ما تعتبره إملاءات حكومية أو خارجية. لكنها تخشى أيضاً أن تفقد دورها كممثل محلي وحيد. وتجاوز هذه العقدة قد يتطلب إما فتح قنوات جديدة للحوار معها، أو التعامل مع قوى اجتماعية أخرى في المحافظة."

الشيخ حكمت الهجري: بين التصعيد وحسابات التراجع
إلى جانب اللجنة، شكّل موقف المرجعية الروحية للطائفة الدرزية، الشيخ حكمت الهجري، عنصراً إضافياً في المشهد، فالرجل رفع سقف خطابه حتى وصل للمطالبة بالانفصال، وهو خطاب وجد صدى لدى بعض المحتجين، لكنه في الوقت ذاته أثار مخاوف من انفلات الأزمة، ويرجع الهجري خطابه متحدثاً عن فظائع ارتكبت من قبل القوات الحكومية، إضافة لحصار وعملية "تجويع" لأبناء المحافظة.
الأطرش يرى أن هذا الموقف يحمل بعدين: "من الناحية الخطابية، صعّب الشيخ الهجري على نفسه التراجع أمام جمهوره. لكن من الناحية السياسية، قد يجد نفسه مضطراً للتراجع تدريجياً إذا رأى أن ميزان القوى ليس في صالحه، خصوصاً مع ضغوط أردنية وداخلية أو بروز مبادرات محلية تحظى بدعم واسع."
ويوضح الخبير بكلمات أخرى، أن مسار الشيخ الهجري سيكون مرهوناً بقدرته على إيجاد "مخرج مشرّف" يحفظ ماء وجهه، دون الدخول في مواجهة مفتوحة مع الدولة أو القوى الإقليمية.
وعلى النقيض يرى أبناء السويداء ان من حقهم المطالبة بتقرير مصير محافظتهم وفق ما يرونه مناسباً لها، ويسعى ناشطون لجمع تواقيع بالمحافظة لرفعها إلى الأمم المتحدة تؤكد أحقيتهم بالمطالبة بتقرير مصير محافظتهم.
بينما يذهب محللون إلى أن حق تقرير المصير لا يجب أن يختص بالمكون الدرزي رغم انهم أغلبية في المحافظة الجنوبية، فهناك قسم من العشائر البدوية يسكنون المحافظة منذ عقود، جرى تهجيرهم خلال الأحداث الأخيرة.
انعكاسات على الملف السوري – الإسرائيلي
البعد الإقليمي للأزمة لا يقف عند حدود الأردن، فوفق تقديرات سياسية، فإن أي تهدئة في السويداء ستنعكس على موقع دمشق في أي تفاوض غير مباشر مع إسرائيل حول الأمن في الجنوب السوري وملف الجولان.
الأطرش يربط بين المسارين بوضوح: "أي تهدئة في السويداء تعزز موقع دمشق التفاوضي مع إسرائيل. بينما أي فشل يعطي تل أبيب ذريعة لتقول إن النظام عاجز عن ضبط مناطقه، وبالتالي يبرر تدخلها الأمني المباشر."
هذا الترابط يسلط الضوء على أن ملف السويداء لم يعد شأناً محلياً، بل ورقة ضمن حسابات إقليمية أوسع تشمل العلاقة السورية-الإسرائيلية، وأمن الحدود الأردنية، والموقف الأمريكي من مستقبل الجنوب السوري.
المجتمع المحلي بين الضغط والانتظار
في قلب هذه التجاذبات، يبقى المجتمع المحلي في السويداء محاصراً بين خطابين: خطاب الدولة الذي يعد بالأمن والخدمات، وخطاب اللجنة القانونية الذي يرفع شعار "تقرير المصير".
لكن الواقع اليومي للأهالي يكشف أن ما يبحثون عنه أولاً هو الأمن الشخصي والخدمات الأساسية، في ظل تراجع حاد للبنية التحتية، وارتفاع معدلات البطالة والفقر. ولعل هذا العامل الاجتماعي-الاقتصادي سيكون محدداً رئيسياً لمدى تجاوب الشارع مع أي خطة تسوية، أكثر من الشعارات السياسية أو الخطابات الرمزية.
التقييم والسيناريوهات
وحسب الخبير السوري يمكن تلخيص المشهد الراهن في السويداء بثلاثة سيناريوهات رئيسية:
نجاح الخطة: وهو سيناريو مشروط بقدرة الحكومة على تطبيق البنود دون اللجوء للعنف، وضمان مشاركة المجتمع المحلي، مع دعم أردني فاعل، وقبول المجتمع المحلي، ونجاح كهذا سيمنح دمشق ورقة قوة في ملفات الجنوب الأخرى.
فشل بسبب الرفض المحلي: إذا استمرت اللجنة القانونية والشيخ الهجري في التصعيد، قد تفشل الخطة وتفتح الباب أمام مزيد من التصعيد، ما يخلق فراغاً أمنياً قد تستثمره إسرائيل أو أطراف أخرى.
تسوية وسطية تدريجية: وهو السيناريو الأرجح، حيث يجري تعديل بعض البنود وإعادة صياغة الخطاب، بما يسمح للطرفين بالشعور بالانتصار بأقل الخسائر، ويتوافق هذا مع تأكيدات المبعوث الأمريكي لسوريا توماس باراك على وحدة سوريا واعتبار الخطة "خطوة تاريخية"، كما أكدت الأردن انها ستجمع الأطراف باجتماعات في عمان لتقريب وجهات النظر.
وبالنهاية تطرح خارطة الطريق لأزمة السويداء أسئلة أكثر مما تقدم إجابات، فهي تكشف رغبة دمشق في إعادة فرض سلطتها، لكنها في الوقت نفسه تبرز حدود هذه السلطة أمام رفض محلي واسع وتوازنات إقليمية دقيقة.
وبينما يسعى الأردن لتقليص نفوذ إسرائيل عبر الانخراط المباشر، يبقى الموقف النهائي رهناً بقدرة الدولة السورية على تحويل وعود الورق إلى واقع ملموس يشعر به أهالي السويداء في حياتهم اليومية.
وإلى أن يتحقق ذلك، ستظل المحافظة الجنوبية ورقة مساومة إقليمية، ومختبراً هشاً لصياغة علاقة جديدة بين المركز والمحيط في سوريا ما بعد الحرب.