في خطوة وصفت بالمفاجئة، أعلنت واشنطن عزمها سحب جميع جنودها من قاعدتي عين الأسد وفكتوريا بالعراق، مع نقل عناصرها إلى أربيل وبلد عربي مجاور، في قرار لم يكن ضمن الجدول الزمني المتفق عليه في اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين بغداد وواشنطن. وبينما ترى الإدارة الأمريكية أن الخطوة تمثل إعادة تنظيم لمهامها في المنطقة، يخشى محللون وسياسيون عراقيون من أن يفتح هذا الانسحاب الباب أمام سيناريوهات مشابهة لما حدث عام 2014 حين أدى الانسحاب السابق إلى تمدد تنظيم "داعش" وسيطرته على مساحات واسعة من العراق.
واشنطن بين الانسحاب وإعادة التموضع
القرار الأمريكي لم يكن وليد اللحظة، بل يأتي في إطار سياسة أوسع تتبعها واشنطن لإعادة تموضع قواتها في الشرق الأوسط. فقد سبق أن أعلنت الولايات المتحدة في أيلول 2024 عن خطة لإنهاء مهمة التحالف الدولي ضد داعش بحلول أيلول 2025، على أن يتحول الوجود العسكري إلى تعاون ثنائي مع الحكومة العراقية بحلول 2026.
غير أن الإعلان المفاجئ عن تسريع الانسحاب من بغداد وعين الأسد حمل إشارات واضحة بأن واشنطن تعيد حساباتها بما يتجاوز محاربة الإرهاب، لتصب في اتجاه حماية مصالحها الاستراتيجية وضمان أمن إسرائيل، وهو ما أشار إليه الدكتور رائد العزاوي، مدير مركز الأمصار للدراسات السياسية، خلال حديث لوكالة ستيب نيوز.
يقول الدكتور العزاوي: "الوجود العسكري الأمريكي في العراق لم يعد يُشكل قيمة استراتيجية، الأولوية الأمريكية اليوم هي أمن إسرائيل وضمان استقرار حلفائها في المنطقة".
هواجس الداخل العراقي: هل يتكرر سيناريو 2014؟
في بغداد، أثار القرار جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والأمنية. فالكثيرون يخشون أن يؤدي الانسحاب المفاجئ إلى فراغ أمني شبيه بما جرى قبل أكثر من عقد.
المحلل السياسي العراقي علي البيدر، خلال حديث لستيب نيوز حذر من خطورة تكرار التجربة قائلاً: "الانسحاب يمثل موقفاً سياسياً أكثر مما هو واقع عملي. انسحاب 2011 لم يكن مدروساً، وبعد عامين ونصف فقط شهدنا كارثة 2014. نخشى أن يعيد التسارع في الأحداث الحالية البلاد إلى مشهد مشابه".
ويضيف البيدر أن العراق يمتلك بالفعل إمكانات أمنية معتبرة، خصوصاً مع فقدان تنظيم داعش حواضنه الاجتماعية والإعلامية، لكنه يشدد على ضرورة أن تمتلك الحكومة خططاً بديلة تحسباً لأي مفاجآت إقليمية أو أمنية، محذراً من أن أطرافاً إقليمية قد تستغل الفراغ لتقويض الاستقرار الداخلي.
بين أربيل وبلد عربي مجاور: معادلة جديدة
تزامناً مع الانسحاب من عين الأسد وفكتوريا، بدأت القوات الأمريكية بنقل وحداتها إلى أربيل، حيث تملك قاعدة حرير الاستراتيجية، إضافة إلى إعادة نشر بعض الجنود في بلد عربي مجاور لم يُكشف عنه بشكل رسمي، وسط ترجيحات أنه الأردن.
هذا التحرك يعزز من فرضية "إعادة التموضع" التي أشار إليها العزاوي، إذ قال: "واشنطن لم تنسحب بشكل كامل، بل أعادت تمركزها بما يتيح لها التدخل عند الحاجة. إن نقل القوات إلى أربيل دليل على أن الولايات المتحدة حريصة على البقاء في قلب المعادلة الأمنية الإقليمية".
ويوضح أن واشنطن ستحافظ على وجودها العسكري في بعض القواعد الاستراتيجية بالمنطقة، بما يسمح لها بالاستفادة منها في حال تطور الصراع بين إيران وإسرائيل.
ويشدد على أنه "لا يتوقع تضرر المصالح الأمريكية في العراق"، خاصة في ظل اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية، حيث يسعى الجميع إلى تهدئة الأوضاع وعدم فتح جبهات جديدة.
هل ينهار الاتفاق الأمني بين بغداد وواشنطن؟
بحسب الخبراء، فإن مذكرة التفاهم الأمنية بين العراق والولايات المتحدة – الموقعة في 2023 – لم تكن اتفاقية استراتيجية شاملة، بل تضمنت ترتيبات تتعلق بـ"ضبط الحدود، مكافحة المخدرات، وتدريب القوات العراقية".
ويرى العزاوي أن الإعلان الأمريكي الأخير أربك المشهد، لكنه لم يلغِ جوهر الاتفاق، قائلاً: "ما حدث ليس انسحاباً شاملاً، بل هو قرار بتعديل التموضع العسكري، والولايات المتحدة ستبقى محتفظة بقوات مؤثرة داخل العراق عبر قواعدها في أربيل وبعض المواقع الاستراتيجية".
ويوضح أن "الاتفاقية الأمنية تعود جذورها إلى عام 2023"، لكن إعلانها في هذا التوقيت هدفه إظهار حكومة السوداني كطرف يمسك العصا من الوسط، عبر تحقيق توازن بين واشنطن وطهران.
الجماعات المسلحة: حضور يتراجع وفراغ يلوح
في ظل هذه المستجدات، تعود المخاوف من استغلال الجماعات المسلحة – سواء الموالية لإيران أو المتشددة مثل داعش – لحالة الارتباك السياسي.
العزاوي يوضح أن هذه الجماعات "فقدت حواضنها الشعبية ولم تعد قادرة على فرض نفسها كما في السابق"، لكنه في الوقت ذاته لم يستبعد محاولاتها تصعيد الهجمات بهدف إثبات الوجود، خاصة مع اقتراب الانتخابات البرلمانية، حيث يسعى كل طرف لفرض أوراق ضغط جديدة.
تداعيات إقليمية: إيران وإسرائيل في صلب المشهد
لا يمكن فصل الانسحاب الأمريكي عن التصعيد المتسارع بين إيران وإسرائيل. فواشنطن، بحسب تقديرات مراكز أبحاث دولية، تعمل على تقليل انكشافها في العراق مع تعزيز مواقعها في أربيل والأردن، تحسباً لأي مواجهة محتملة.
العزاوي أكد هذا السيناريو قائلاً: "القواعد التي تحتفظ بها الولايات المتحدة ستكون ذات فائدة مستقبلية في حال تطور الصراع الإيراني–الإسرائيلي".
هل العراق قادر على ملء الفراغ؟
رغم التطمينات الرسمية، يظل السؤال الأبرز: هل العراق قادر على ملء الفراغ المحتمل؟
ويرى الخبراء في هذا أن "القوات العراقية باتت أكثر تنظيماً وجاهزية مما كانت عليه في 2012 – 2014، حيث نفذت عمليات استباقية ناجحة ضد داعش.
كما أن الأجهزة الاستخبارية أثبتت قدرتها على إحباط هجمات قبل وقوعها، واعتقلت قيادات بارزة في التنظيم.
إضافة إلى أن الغطاء الدولي لا يزال موجوداً، مع استمرار التعاون الأمني مع التحالف الدولي، حتى وإن تراجع الدور المباشر للقوات الأمريكية.
لكن التحدي يكمن في غياب خطة استراتيجية طويلة الأمد، وهو ما يثير قلق المحللين مثل البيدر الذي اعتبر أن "غياب التخطيط قد يحول الانسحاب من فرصة لتعزيز السيادة إلى تهديد للاستقرار".
مستقبل العلاقة العراقية – الأمريكية
رغم كل الضجيج حول الانسحاب، إلا أن الوقائع على الأرض تشير إلى أن العلاقات العراقية – الأمريكية لن تشهد قطيعة.
فواشنطن ما زالت تحتفظ بوجود قوي في أربيل منذ عام 2003، إلى جانب حضور استشاري في قواعد أخرى. العزاوي يلخص المشهد بقوله: "العلاقات بين بغداد وواشنطن ستبقى محكومة بالتوازنات الإقليمية والدولية. لن ينسحب الأمريكيون بالكامل، بل سيعيدون صياغة وجودهم بما يحقق مصالحهم الاستراتيجية".
وبين رواية "إعادة التموضع" وتخوفات "الفراغ الأمني"، يقف العراق أمام مفترق طرق جديد. الانسحاب الأمريكي المفاجئ قد لا يعني نهاية الوجود العسكري الأمريكي، لكنه بلا شك يفتح الباب أمام مرحلة انتقالية محفوفة بالمخاطر. ويبقى الرهان على قدرة بغداد على صياغة معادلة أمنية داخلية متماسكة، تمنع تكرار كوارث الماضي وتؤسس لشراكة متوازنة مع واشنطن، في وقت يشهد الإقليم اضطراباً كبيراً.
اقرأ أيضاً|| العراق يدخل قلب العاصفة.. اتفاق مع إيران "فجّر" الأزمة مع واشنطن وتحرك عسكري "خطير" يلوح بالأفق