شهدت العاصمة الصينية بكين أمس عرضًا عسكريًا استثنائيًا بمناسبة مرور 80 عاماً على انتصار المقاومة الصينية على اليابان. غير أن هذا الحدث تجاوز طابعه الاحتفالي ليصبح مشهدًا سياسيًا وعسكريًا بامتياز، حمل في طياته رسائل واضحة للداخل والخارج، بحسب ما كشف خبير عسكري لوكالة ستيب نيوز.
رسائل سياسية ودبلوماسية إلى الغرب وتايوان
حضر العرض قادة دول بارزون على رأسهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ورئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون، إلى جانب رئيس إيران، في دلالة رمزية على تشكّل محور استراتيجي بقيادة بكين، يسعى لمواجهة ما يوصف بالهيمنة الأمريكية، وهذه المشاركة لم تكن بروتوكولية فحسب، بل أكدت أن العرض تحوّل إلى منصة لإبراز اصطفافات دولية جديدة.
يرى اللواء محمد عبد الواحد، الخبير العسكري، أن العرض لم يكن مجرد استعراض عسكري، بل مناسبة لإظهار الصين كقوة عظمى تسعى لتثبيت موقعها في النظام العالمي الجديد. ويوضح أن خطاب الرئيس الصيني شدد على المزج بين الماضي والحاضر، وربط قضية تايوان بالسيادة الوطنية غير القابلة للتجزئة.
ويضيف عبد الواحد: "العرض حمل رسائل متعددة إلى الغرب، أبرزها أن الصين قوة مسؤولة تدعو للسلام، لكنها في الوقت ذاته قادرة على حماية مصالحها واستخدام القوة عند الضرورة".
الثالوث النووي: تعزيز الردع الاستراتيجي
من أبرز المشاهد التي جذبت أنظار العالم، ظهور الثالوث النووي الصيني بشكل علني لأول مرة. فقد عرضت بكين قدرتها على إطلاق الأسلحة النووية من البر عبر الصواريخ الباليستية العابرة للقارات Dongfeng-61 وDongfeng-31 وDF-5C القادر على حمل رؤوس حربية متعددة، ومن البحر عبر الغواصات النووية صاروخ Julang-3 ، ومن الجو بواسطة القاذفات الاستراتيجية صاروخ Jinglei-1.
وحول ذلك، يقول اللواء عبد الواحد: "هذا الاستعراض النووي يوجّه رسالة بأن الصين ليست دولة يمكن تجاوزها، بل تستطيع مواجهة أكبر قوة في العالم. إنه تأكيد على مكانتها كقوة نووية كبرى إلى جانب الولايات المتحدة وروسيا".
ويشير إلى أن هذه الخطوة بمثابة رسالة مباشرة إلى تايوان والمنطقة، مفادها أن بكين لن تتردد في اللجوء إلى القوة لحماية سيادتها.
الصواريخ الفرط صوتية: قلب لمعادلة الردع
أحد أبرز مفاجآت العرض تمثل في الكشف عن الصواريخ الفرط صوتية مثل Dongfeng-17 وYingji-20. هذه الصواريخ، كما يؤكد اللواء عبد الواحد، قادرة على التحليق بسرعات تفوق سرعة الصوت بخمسة أضعاف مع قدرة عالية على المناورة، ما يجعل اعتراضها عبر أنظمة الدفاع التقليدية أمرًا بالغ الصعوبة.
ويضيف: "الصواريخ الفرط صوتية لا تملكها إلا دول معدودة، وهي تمنح الصين تفوقًا تكنولوجيًا يقلص الفجوة مع الولايات المتحدة وروسيا. كما أن الكشف عنها قد يدفع القوى الكبرى إلى تسريع برامج مماثلة، ما ينذر بسباق تسلح عالمي متصاعد".
الأنظمة غير المأهولة: نحو الحروب الذكية
لم يقتصر العرض على الأسلحة النووية والفرط صوتية، بل شمل أيضًا مجموعة واسعة من الطائرات المسيّرة والغواصات غير المأهولة، في إشارة إلى تقدم الصين في مجالات الحرب الذكية.
وشمل العرض أنظمة بحرية وغير مأهولة مثل HSU-100 وAJX-002 للرقابة البحرية ونشر الألغام، وطائرات بدون طيار هجومية واستطلاعية، وطائرات إنذار مبكر KJ-600 .
ويعلّق اللواء عبد الواحد قائلاً: "العرض كان مبهراً في مجال الأنظمة غير المأهولة. هذه التقنيات تعكس قدرة الصين على تنفيذ عمليات معقدة في أعالي البحار والمحيطات، من كشف الغواصات المعادية إلى زرع الألغام أو تنفيذ هجمات انتحارية. إنها نقلة نوعية في مرونة الردع الصيني".
كما يشير إلى أن لهذه الأنظمة بعدًا اقتصاديًا، فهي تسوّق الصناعات العسكرية الصينية في الأسواق العالمية، وتشكّل مصدر فخر داخلي يعزز الانتماء والوحدة الوطنية.
أسلحة الليزر والميكروويف: ثورة في الدفاع الجوي
ضمن المنظومات الجديدة، عرضت الصين أنظمة دفاعية تقوم على أسلحة ليزرية وميكروويفية قادرة على مواجهة الطائرات المسيّرة. هذه الأنظمة، بحسب المحللين، تُمثل نقلة في طبيعة الحروب المستقبلية، إذ تمنح بكين قدرات ردع جديدة تواكب تطور التهديدات الجوية.

التحالفات والرسائل المزدوجة
يؤكد اللواء عبد الواحد أن دلالات العرض متعددة وتشمل رسائل سياسية إلى الغرب وتايوان بشأن وحدة الأراضي الصينية.
وإبراز امتلاك الصين أحدث الأسلحة المصنعة محليًا، بما يعزز استقلالها الاستراتيجي، إلى جانب تعزيز الوحدة الوطنية والفخر الداخلي بالدولة.
كما أنها تظهر تحالفات إقليمية واسعة في مواجهة التحدي الأمريكي، تجسّدها مشاركة قادة روسيا وإيران وكوريا الشمالية وبيلاروسيا، كما يؤكد أن العرض بمثابة الترويج للأسلحة الصينية في الأسواق العالمية، وهو جانب لا يقل أهمية عن البعد العسكري.
ولم يكن العرض العسكري الصيني الأخير مجرد مناسبة رمزية، بل حدث استراتيجي بكل المقاييس. فقد مزج بين الاستعراض العسكري والتعبير عن ملامح نظام دولي جديد تسعى بكين إلى قيادته، في ظل منافسة متصاعدة مع الولايات المتحدة وحلفائها.
وكما خلص اللواء محمد عبد الواحد: "الصين أرادت أن تقول للعالم إنها قوة كبرى مسؤولة، تدعو إلى السلام، لكنها جاهزة للردع والدفاع عن مصالحها. إنها رسائل إلى الداخل لتعزيز الوحدة الوطنية، وإلى الخارج لتأكيد أن بكين باتت لاعبًا أساسيًا في صياغة معادلات القوة الدولية".