في خطوة غير مسبوقة منذ أكثر من 4 عقود، وافق البنك الدولي على تقديم منحة بقيمة 146 مليون دولار لدعم قطاع الكهرباء في سوريا، عبر "مشروع الكهرباء الطارئ"، الذي يهدف إلى إصلاح البنية التحتية المتضررة من الحرب، وتهيئة الظروف لاستعادة استقرار الطاقة، وتأتي هذه الخطوة بعد تسوية مستحقات سابقة على سوريا بوساطة خليجية، لتفتح الباب أمام دعم دولي أكبر قد يتجاوز الجانب التقني ليشمل تنشيط عجلة الاقتصاد الوطني.
المنحة تمهّد الأرض لمشاريع ضخمة في الطاقة
تشير تقارير البنك الدولي إلى أن أكثر من 70٪ من منشآت توليد الطاقة تضررت أو خرجت عن الخدمة، مما أسفر عن انخفاض القدرة التوليدية من حوالي 8,000 ميغاواط قبل الحرب إلى أقل من 1,500 ميغاواط في بعض السنوات. ورافق ذلك زيادة الاعتماد على المولدات الخاصة، وارتفاع تكلفة الكهرباء على السكان والصناعيين، وتعطل عدد كبير من المنشآت الإنتاجية.
ومن جانبه يشير الخبير الاقتصادي السوري ملهم الجزماتي، خلال حديث مع وكالة ستيب نيوز، إلى أن المنحة ترتبط بشكل وثيق باتفاقية الشراكة التي وقعتها الحكومة السورية مؤخراً مع مجموعة من الشركات الدولية لتطوير مشاريع طاقة جديدة.
ويقول الجزماتي: "تبدو العلاقة تكاملية بين المنحة واتفاقية الشركات؛ فبينما تركز المنحة على إعادة تأهيل خطوط النقل ومحطات المحولات، تهدف اتفاقية الشركات إلى تطوير مشاريع إنتاج كهرباء بطاقة تصل إلى 5000 ميغاوات، منها محطات توربينات غازية وأخرى شمسية. أي أن المنحة تهيئ البنية التحتية اللازمة لاستقبال الكهرباء المنتجة من المحطات الجديدة."
وبحسب الجزماتي، فإن هذا الربط بين التأهيل والإنتاج يُعدّ مفتاحًا لتحريك قطاعات اقتصادية واسعة، من خلال تحسين استقرار الكهرباء ودعم الصناعات الوطنية.
من البنية التحتية إلى فرص العمل
يتضمن المشروع أيضًا مكونًا خاصًا ببناء القدرات المؤسسية ودعم فني لوزارة الكهرباء السورية، مما يشير إلى رغبة البنك في دعم استدامة المنحة وتأثيرها طويل المدى.
ويتجاوز تأثير المشروع حدود تحسين التيار الكهربائي، ليصل إلى دعم الاقتصاد السوري المنهك بعد أكثر من 14 عامًا من الصراع.
يقول الجزماتي: إن "تحسّن الكهرباء من شأنه أن يدعم القطاع الصناعي، ويحرك قطاعات الزراعة والخدمات، ويخلق آلاف فرص العمل المباشرة وغير المباشرة. فالكهرباء ليست رفاهية، بل شريان الحياة للاقتصاد الحديث."
التمويل ليس قرضًا... ولا يُسدد
ما يميز هذا الدعم الدولي أنه لا يُعدّ قرضاً تقليدياً، بل منحة مقدّمة من المؤسسة الدولية للتنمية (IDA)، وهي ذراع البنك الدولي للدول الأكثر فقراً.
ويفسر الجزماتي ذلك بقوله: "المنحة لا تتطلب السداد، ولا يمكن تحويلها لاحقاً إلى دين، ويعود الفضل في الحصول عليها إلى تسوية المتأخرات المستحقة على سوريا للبنك الدولي، والتي دفعتها كل من السعودية وقطر، وهذه إشارة واضحة إلى تنسيق إقليمي لدعم سوريا بطريقة غير مباشرة."
ويُذكر أن السعودية وقطر سددتا حوالي 15.5 مليون دولار لصالح البنك الدولي نيابة عن سوريا، مما أعاد تفعيل مؤهلات سوريا لتلقي دعم من مؤسسات التمويل الدولية لأول مرة منذ عقود.
رقابة دولية صارمة وآليات للمساءلة
رغم كون التمويل غير مُلزم بالسداد، إلا أن البنك الدولي يفرض معايير دقيقة لضمان الشفافية والفعالية في التنفيذ.
يقول الجزماتي: "يمتلك البنك الدولي أطرًا صارمة للرقابة والمساءلة حتى على مستوى المنح، ويشرف بشكل مباشر على تنفيذ المشاريع وفق معايير النزاهة الدولية، ويضمن عدم وجود شبهات فساد، إضافة إلى التزام الحكومة السورية بتشغيل وصيانة البنية التحتية بعد انتهاء المشروع."
ويتضمن المشروع مكونًا خاصًا بـ "المساعدة الفنية وتطوير القدرات المؤسسية"، مما يعني أن المنحة لا تقتصر على الجانب الفني، بل تشمل تدريب الكوادر الحكومية، ودعم مؤسسات الكهرباء والمالية والطاقة، ورفع جاهزيتها التشغيلية.
وقد شاركت هذه الوزارات فعلياً في الاجتماعات الأولية الخاصة بالاتفاقية.
إشراك المجتمع المدني والخبراء المستقلين
يشدد البنك الدولي على أهمية إشراك الجهات المحلية والمجتمع المدني في مشاريع إعادة الإعمار، بما في ذلك في سوريا، وتُعد هذه المشاركة أداة فعالة لضمان الشفافية.
لا يغيب عن المشروع الجانب المدني والرقابي، حيث يشير الجزماتي إلى أن البنك الدولي يتبع سياسة صارمة بإشراك المجتمع المدني والمواطنين المتأثرين بالمشاريع، موضحاً: "تم إشراك خبراء مستقلين في إعداد الاتفاقية، ومن الممكن مستقبلاً أن تُشكّل لجان مراقبة تضم ممثلين عن الحكومة والمجتمع المدني وخبراء منظمات غير حكومية. وهذا مهم جداً لتعزيز الشفافية والمساءلة، خصوصاً في بيئة ما بعد النزاع مثل سوريا."
ويتابع: "البنك الدولي استخدم سابقًا صناديق ائتمانية لمراقبة مشاريع في مناطق النزاع مثل العراق واليمن، ويمكن استنساخ هذه الآليات في سوريا. بل إن إشراك طرف ثالث محايد في مراقبة التنفيذ قد يكون ضمانًا إضافيًا لنجاح المشروع."
هل تمهد المنحة لتحول اقتصادي في سوريا؟
يرى خبراء أن هذه المنحة – رغم محدوديتها نسبيًا مقارنة بحجم دمار البنية التحتية – قد تكون بداية لتغيير تدريجي في بنية الاقتصاد السوري، فالكهرباء تشكل العصب الحيوي للإنتاج الصناعي، والزراعي، والتجاري، وإذا تم تنفيذ المشروع بشفافية واستدامة، فقد يكون خطوة أولى نحو إعادة بناء الثقة بين سوريا والمؤسسات المالية الدولية، وربما إعادة دمجها تدريجياً في الاقتصاد العالمي.
[caption id="attachment_645427" align="alignnone" width="2405"]

أول منحة من البنك الدولي منذ 4 عقود؟.. خبير يكشف عن تحول اقتصادي مهم في سوريا[/caption]
https://youtu.be/eOG6ae5ye0g?si=fbz2FCRDpjwc6v3V
https://youtu.be/CX_cKgR6saQ?si=_KCr669JZ17sLLS3