وسط دخان الحرب المستعرة في السودان وأصوات الرصاص التي لا تهدأ منذ أبريل 2023، يقف آلاف السوريين المقيمين هناك على حافة المجهول، وهؤلاء الذين ظنوا أن الخرطوم ستكون ملاذًا آمنًا بعد مآسي الحرب في بلادهم، وجدوا أنفسهم اليوم أمام صراع دموي جديد يهدد حياتهم وأرزاقهم، في وقت يغيب فيه أي تمثيل دبلوماسي سوري يتابع شؤونهم أو يلبي احتياجاتهم الطارئة.
وجود سوري طويل في السودان.. من اللجوء إلى الاستثمار
منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، اختار كثير من السوريين السودان كوجهة بديلة للهجرة، بعدما فتح أبوابه لهم دون تأشيرات أو قيود، وبعضهم قصدوه عابرين نحو دول أخرى، وآخرون استقروا فيه لسهولة فتح المشاريع التجارية والتعليمية فيه مقارنة بغيره من الدول المجاورة.
تقديرات غير رسمية متقاطعة من تقارير مختلفة تشير إلى أن عددهم بلغ في فترة سابقة أكثر من 250 ألف نسمة، لكن الأوضاع الاقتصادية والقرارات الحكومية المتلاحقة قلصت هذا العدد إلى ما بين 60 و90 ألف سوري حتى العام 2021، فيما يتراوح العدد اليوم وفق مراقبين بين 50 إلى 70 ألفًا في ظل ظروف النزوح الداخلي وعمليات المغادرة.
تركزت الجالية السورية في الخرطوم وأحياء الرياض وكافوري ووسط المدينة، حيث نشطت محلاتهم ومطاعمهم وأسواقهم الصغيرة، غير أن الحرب الأخيرة قلبت حياتهم رأسًا على عقب، بعدما باتت تلك الأحياء ساحات قتال مفتوحة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
كثير من السوريين أصبحوا محاصرين في بيوتهم دون كهرباء أو مياه، مع انقطاع سلاسل التوريد الغذائية والدوائية، وغياب الأمن في الشوارع التي انتشرت فيها حوادث السرقة والخطف والقتل العشوائي.
مطالب السوريين.. إنسانية ودبلوماسية
في ظل هذه الفوضى، تحدث شخص سوري مقيم في السودان لـ"وكالة ستيب نيوز"، مفضلًا عدم الكشف عن اسمه، وقال إن أبرز ما يطالب به السوريون اليوم هو تنظيم رحلة إجلاء عاجلة تشمل النساء والأطفال وكبار السن، خاصة في ظل المخاطر اليومية، لكنه أشار في المقابل إلى أن بعض السوريين لا يريدون العودة إلى سوريا حاليًا خوفًا على أعمالهم واستثماراتهم القائمة في الخرطوم، رغم تدهور الوضع.
أضاف المتحدث أن غياب السفارة السورية زاد من أزمتهم تعقيدًا، إذ لا يوجد اليوم أي سفير أو قائم بالأعمال أو حتى موظف قنصلي رسمي يمثلهم ويحمي مصالحهم ويرعى حقوقهم داخل السودان، مؤكدًا أنهم يطالبون بشكل عاجل بإرسال بعثة دبلوماسية لإدارة شؤونهم وتسهيل معاملات الأوراق الثبوتية.
وأوضح أن أغلب الشباب السوريين المقيمين هناك حصلوا في السنوات الماضية على جوازات سفر لمدة سنتين فقط، وهي مدة كانت تُمنح في عهد النظام البائد قبل قرار تمديدها، وقد انتهت صلاحيتها الآن وسط الحرب الدائرة، ما جعلهم عالقين دون وثائق سارية تمنحهم حق الحركة أو السفر.
وأشار أيضًا إلى أن هناك عددًا كبيرًا من السوريين كانوا قد قدموا جوازاتهم للتجديد ودفعوا رسومها بالدولار قبل اندلاع الحرب، لكن لم يحصلوا حتى اليوم إلا على خطابات استلام منتهية الصلاحية وغير معتمدة لدى السلطات السودانية، وهو ما جعلهم في وضع قانوني معقد يمنعهم حتى من التنقل داخل البلاد.
وقال إن غالبية هؤلاء باتوا ملازمين لأماكن سكنهم أو أعمالهم دون القدرة على الخروج أو تأمين بدائل آمنة.
ولم تتوقف مطالب السوريين في السودان عند ذلك، إذ يواجهون أيضًا أزمة كبيرة تتعلق بالضرائب العالية المفروضة عليهم ورسوم الإقامات الباهظة التي تجعل حتى من ينجح بتجديد جوازه غير قادر على استصدار إقامة قانونية.
ويؤكد المتحدث أن كثيرين اضطروا إلى إغلاق أعمالهم أو تعليق مشاريعهم بسبب هذه الأعباء، إضافة إلى تضرر الطلاب السوريين الملتحقين بالجامعات السودانية نتيجة استمرار الحرب، لا سيما في الكليات التي تفرض الحضور الإجباري رغم الظروف، ما جعل مستقبلهم التعليمي في مهب الريح.
غياب السفارة وخطط إجلاء بلا تنفيذ
كانت الحكومة السورية قد أعلنت في مايو 2025 نيتها إرسال فريق رسمي إلى السودان لتقييم أوضاع رعاياها، بعد تزايد المناشدات.
ويذكر أن دمشق نظمت في العام 2023 عمليات إجلاء شملت أكثر من ستة آلاف سوري من ميناء بورتسودان إلى دمشق عبر رحلات جوية خاصة، لكن الصراع المستمر أوقف معظم هذه الجهود لاحقًا.
ورداً على العديد من الاستفسارات ال وردت وزارة الخارجية السورية، قال محمد عبد السلام، مدير إدارة شؤون المغتربين في وزارة الخارجية والمغتربين السورية، في منشور على صفحته في فيسبوك: " وزارة الخارجية والمغتربين السورية التي تعمل بلا توقف طوال الأسبوع، بوقت مفتوح يتجاوز ساعات الدوام الرسمي، أمام تحديات عديدة لا تُقدَّم فيها إحداها على الأخرى، في سباق دائم مع الزمن".
وأضاف: " حراكنا الدبلوماسي لا ينقطع ليلاً أو نهارًا لبناء علاقات تليق بسوريا الحرة. كما أننا نعيد هيكلة بنية الوزارة التي دمرها نظام الأسد كما دمر مؤسسات الدولة، ونؤهل كوادرًا تمثل سوريا الجديدة داخلًا وخارجًا. ولا نغفل عن حماية خدماتكم القنصلية وضمان مصالحكم، مع متابعة كل قضايا السوريين حول العالم – العامة منها والفردية – دون استثناء".
وأكد ان وزارة الخارجية السورية تعمل بجد لحل قضية السوريين في السودان، وأشار إلى أن المناشدات – سواء تكررت مرة أو ألفًا، أو حتى غابت – لن تزيد أو تنقص من تفاعلهم، مضيفاً: "نحن نعمل بكل طاقتنا انطلاقًا من واجبنا تجاهكم، لا تحت ضغط إعلامي، ولا هروبًا من نقد".
وحتى اليوم، ورغم وعود التقييم والإجلاء الجديدة، لم تُنفذ أي عملية واسعة، خاصة مع تدهور الوضع الأمني في محيط العاصمة وصعوبة وصول السوريين إلى الموانئ أو المعابر البرية القريبة من دول مثل مصر وتشاد وإثيوبيا.
وما زاد الطين بلة، وفق مراقبين، هو استمرار إغلاق السفارة السورية بالكامل منذ العام الماضي، ما جعل السوريين بلا أي مرجعية رسمية تخاطب الحكومة السودانية باسمهم أو تسهل إجراءات سفرهم.
نداء مفتوح قبل فوات الأوان
بين حربين لم يختاروها، يعيش السوريون في السودان اليوم في دائرة انتظار قاتلة. وتبقى مطالبهم واضحة: إجلاء عاجل للفئات الأكثر ضعفًا، إعادة فتح بعثة دبلوماسية سورية تتابع شؤونهم، تجديد جوازات السفر المنتهية، وتخفيف العبء الضريبي والرسوم الباهظة التي تخنق أعمالهم وإقاماتهم، وهي مطالب إنسانية أساسية، لا تحمل ترف الانتظار، ولا تترك مجالًا إلا لأمل سريع قد ينقذ حياة الآلاف قبل أن تنطفئ تحت ركام الحروب.
[caption id="attachment_646902" align="alignnone" width="2405"]

السوريون في السودان بين الحرب والنسيان.. مطالب عالقة تبحث عن استجابة[/caption]
اقرأ أيضاً|| السودان أمام مفترق طرق.. مستشار حميدتي يكشف لـ"ستيب" عن مشروع نظام حكم غير مسبوق بالبلاد