بينما يعيش الأهالي وسط أزمة إنسانية وسياسية وأمنية خانقة منذ يوليو الماضي، بعد أن تفجّرت الأوضاع بالمحافظة الجنوبية من سوريا، ظهرت بارقة أمل من خلال إعلان عن اتفاق بشأن السويداء وخارطة طريق لحل هذا الملف، حيث أعلن وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني عن ذلك بحضور وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، والمبعوث الأمريكي لسوريا توم باراك، اليوم الثلاثاء.
وكانت الأزمة قد اشتعلت بعد اندلاع اشتباكات دامية بين مقاتلين محليين ومجموعات بدوية، رافقتها ضربات جوية إسرائيلية وتدخل حكومي اعترفت دمشق أنه "ارتكب خلاله أخطاء"، وحرائق طالت عشرات القرى من قبل القوات المهاجمة، ما وصفته الحكومة بتجاوزات فردية من عناصرها، أو من قبل عناصر غير حكومية تنتمي للعشائر المسلحة، وعلى إثر ذلك دخلت المنطقة في حصار خانق، أدى إلى شلل شبه كامل في الأسواق والخدمات، فيما يشير الاتفاق الجديد لسيناريو حل قد يخفف وطأة المعاناة.
أولاً: جذور الأزمة.. تراكمات قديمة فجّرها حدث جديد
اندلعت المواجهات في يوليو الماضي إثر نزاع دموي بين مقاتلين "دروز" وفصائل "بدوية"، لكن خلفياتها تمتد إلى سنوات من التوتر بسبب الخطف المتبادل، والنزاعات على الأراضي، وتوسع شبكات التهريب والسلاح، وما زاد المشكلة هو تدخل حكومي ارتكبت خلاله أخطاء وفق تصريحات المسؤولين السوريين، حيث أدى زجّ القوات الحكومية إلى اشتباكات عنيفة سقط خلالها قتلى بالمئات وارتكبت فظائع وجرائم من جميع الأطراف، كما تدخلت إسرائيل بذريعة حماية المكون الدرزي، ليتعمّق بذلك الشرخ المجتمعي هناك.
تقارير تحليلية أكدت أن توصيف الحدث على أنه "طائفي" تبسيط مخل، إذ تداخلت فيه أبعاد قبلية واقتصادية وسياسية، مع تدخلات إقليمية.
شهادات الأهالي تثبت حجم الكارثة التي خلفتها هذه المواجهات، الآنسة "ر.ش" قالت: إن "34 قرية مدمرة ومحروقة بالكامل وأهلها نزحوا إلى المدينة"، وهذا التدمير، مع الحصار الذي تلا المواجهات، جعل الحياة في السويداء تتحول إلى مأساة إنسانية غير مسبوقة.
ثانياً: الأسواق الميتة بين تقارير التعافي وشهادات العجز
بعد اتفاقيات وقف إطلاق نار بين الفصائل المحلية بالسويداء من جهة والقوات الحكومية مع فصائل البدو من جهة ثانية وبرعاية إقليمية، انسحبت القوات الحكومية و"البدو" من معظم قرى وبلدات المحافظة، إلا أن الوضع العسكري والأمني بقي متوتراً، وأغلقت جميع المنافذ إلى المحافظة.
خلال الأسابيع الماضية تراجع مستوى العمليات القتالية الكبرى داخل مركز المدينة بعد اتفاقات لتهدئة ووجود أمني حكومي مكثف في محيطها، لكن استمرار احتكاكات مسلّحة في بعض القرى تُبقي الأجواء متوترة.
تقارير أممية وصحفية تحدثت عن دخول قوافل إغاثية وبضائع تجارية عبر دمشق خلال الأسابيع الأخيرة، الأمر الذي ساهم في عودة تدريجية للحياة بالأسواق، رغم استمرار ارتفاع الأسعار نتيجة الاستغلال التجاري.
أبو فهد، أحد أبناء السويداء أكد قائلاً: "بدأت الحياة الطبيعية تعود إلى الأسواق تدريجياً، ومعظم المواد أصبحت بدأت تتوفر بعد دخول شاحنات المساعدات، لكن الأسعار بقيت مرتفعة بسبب استغلال التجار".
في المقابل، جزء كبير من الأهالي ينفون وجود هذا التعافي، وسيدة من السويداء فضلت عدم ذكر اسمها روت: "المحلات كلها فاضية، ما في غير قطعتين أو ثلاثة بالمتجر، لا حليب أطفال ولا أدوية مزمنة".
المهندسة "م.ج" عززت ذلك قائلة: "المخازن فرغت وما ظل بضائع، الأدوية خاصة السرطان والسكري مفقودة".
هذا التباين يوضح فجوة حقيقية بين صورة السوق الرسمية وصورة المستهلك العادي الذي لا يجد ما يشتريه أو لا يملك القدرة المالية لشرائه.
ووفق التقارير والشهادات فإن السويداء تُعاني نقصاً حاداً في السلع الأساسية وارتفاعاً كبيراً في الأسعار، وطوابير طويلة للوقود، ونقصاً دوائياً في أدوية مزمنة مثل الإنسولين وأدوية السرطان حسب منظمات إنسانية دولية، كما أن البنية الصحية وصلت إلى حد الضغط القصوى، فأقسام الطوارئ مكتظة ومخزون الأدوية يتناقص، والتهجير الداخلي والخارجي لآلاف العائلات زاد العبء على المجتمعات المضيفة وعمّق تفتت سلاسل الدخل المحلية المرتبطة بالزراعة والتجارة.
ثالثاً: الخدمات المنهارة.. بين بيانات التحسن وواقع الانقطاع
الماء والكهرباء والاتصالات تشكل أكثر الملفات إلحاحًا، وتقارير إنسانية أشارت إلى ضغط هائل على شبكات الصحة والمياه، مع نقص حاد في الأدوية وأزمات متكررة في الوقود.
إحدى السيدات قالت: "الكهرباء تأتي ربع ساعة فقط، والماء تحتاج أسبوع لتوصلك نقلة، والغاز مفقود كليًا".
بينما أضافت "ر.ش": "معظم الآبار في القرى المحيطة ردمت أو فجرت، ما زاد أزمة المياه".
من جهته، "أبو فهد" قدّم صورة أقل قتامة وقال: "الكهرباء تنقطع لساعات طويلة مقابل ساعة وصل، وأحياناً لأيام. صهريج الماء يكلف 200 ألف ليرة. الاتصالات سيئة".
ويتضح أن هناك تحسنًا نسبيًا في توفر الخدمات مقارنة بذروة الحصار، لكنه تحسن غير كافٍ ولا يعكس تلبية الحد الأدنى من احتياجات السكان.
رابعاً: الأمن.. هدوء هش وتنافس مرجعيات
في الساحة الأمنية، أكدت مصادر ميدانية أن القتال تراجع بعد هدنة وانتشار قوات حكومية في محيط المحافظة، وسيطرة داخلية للفصائل المحلية، التي نظّمت صفوفها بتشكيلات جديدة مثل "الحرس الوطني" وفعّلت مراكز شرطة داخلية، ووضعت لجنة قانونية لإدارة الملفات الإدارية بالمحافظة، وكلّها تتبع لشيخ العقل حكمت الهجري، بعيداً عن سلطة الحكومة السورية.
لكن رغم الهدنة، تبقى الحوادث الأمنية قائمة، هناك تقارير تفيد بوقوع عمليات اغتيالات، وخطف متكرر، ووجود مجموعات مسلحة خارج السيطرة.
المهندسة "م.ج" أشارت إلى أن الناس يحاولون تجنب المشاكل: "الوضع آمن داخل المدينة، والناس ما بدها مشاكل بعد الرعب يلي عاشوه".
أما "أبو فهد" فيكشف عن بنية أمنية جديدة ويقول: "جرى تنصيب قائد لقوى الأمن الداخلي من أبناء السويداء، وتفعيل شرطة المرور والأمن الجنائي، لكن مجموعات لن تتقيد بالأوامر"، في إشارة إلى التعيينات الأخيرة من قبل الشيخ الهجري.
بينما الحكومة السورية، قامت بتعيينات شملت تغيير قائد الأمن الداخلي وتعيين مدراء لمديريات الأمن من أبناء المحافظة من بينهم القيادي سليمان عبد الباقي، وهو ما لاقى ترحيباً باعتبار "عبد الباقي" من أبناء السويداء وقيادي معروف بالفصائل المحلية منذ سنوات، وهذ الأمر يسحب "الذريعة" التي كان يتحدث عنها بعض الأطراف بفرض شخصيات من خارج المحافظة لإدارتها، إلا أن الفصائل المحلية التي تسيطر على المحافظة ترفض التعامل مع هذه الشخصيات ومن بينهم "عبد الباقي" معتبرين أنه امتداد للحكومة، وتعمل هذه الفصائل على تنظيم نفسها بدون العودة لسلطة الحكومة السورية مع استمرار الخلاف السياسي بينهم.
خامساً: الطريق الرئيسي.. بين الفتح النظري والإغلاق العملي
تقارير إنسانية أشارت إلى أن الطريق بين دمشق والسويداء أُعيد فتحه جزئيًا، ما سمح بدخول قوافل إغاثية.
لكن الأهالي يشددون على أن الطريق غير آمن، "ر.ش" قالت: "الطريق مغلق بسبب السلب والقتل، إلا مع الهلال الأحمر"، وأكدت أيضاً المهندسة "م.ج": "كل يوم يقولون انفتح، لكن الناس تنخطف".
"أبو فهد" يقدم رواية أخرى: "الحكومة تحاول تأمين الطريق، لكن من جهة الشيخ الهجري تُفرض ورقة إذن خروج، ومن لا يحملها لا يغادر".
الحديث الشعبي والشفهي عن "حصار" استند إلى إغلاق بعض محاور الإمداد ووجود نقاط تفتيش مكثفة وسيطرة عسكرية على المحاور الواصلة بالمحافظة، ما حدّ فعلياً من حركة التجار ودخول القوافل التجارية.
مصادر إغاثية وصحفية أفادت أن الطريق الرئيسي بين دمشق والسويداء كان مغلقاً أو مسدوداً جزئياً لأسابيع بعد تفجُّر العنف، وأن وصول المساعدات كان يتم عبر طرق بديلة عبر درعا أو عبر شبكات محلية محدودة، وفي وقتٍ لاحق أُعلن عن إعادة فتح الطريق الرئيسي للسماح بدخول قوافل إغاثة.
إذن، الطريق مفتوح على الورق، لكن في الواقع يخضع لقيود أمنية واجتماعية تجعله شبه مغلق أمام المدنيين.
سادساً: المساعدات الإنسانية.. استجابة محدودة لحاجة هائلة
دخلت قوافل أممية إلى السويداء عبر الطريق الرئيسي لأول مرة منذ منتصف يوليو، لكن حجم الحاجة أكبر بكثير مما يصل.
الأهالي يؤكدون أن "الطحين وحليب الأطفال لم يسمح بدخولها منذ بداية الحصار"، المهندسة "م.ج" لفتت إلى أن "النازحين في القرى الآمنة وجدوا دعماً من الأهالي، بينما من لجأ إلى المدينة يعتمد على مراكز إيواء والمساعدات".
"أبو فهد" قدّر عدد النازحين بنحو 200 ألف شخص، يعيشون أوضاعًا مأساوية، ويستغيثون قبل حلول الشتاء.
ويتضح أن المساعدات موجودة لكنها غير كافية، وتوزيعها غير متكافئ بين المدينة والريف، كما أن هناك اتهامات للفصائل المحلية بـ"سرقة" المساعدات وتوزيعها بشكل غير عادل.
سابعاً: البعد الإنساني: المرض في مواجهة الحصار
الأزمة لم تقتصر على الغذاء والخدمات، بل طالت القطاع الصحي، تقول الصحفية "شمس" من أبناء مدينة السويداء: "الناس تموت من السرطان وأمراض الكلى، وجرعات العلاج مفقودة حتى من قبل الحصار، والآن اختفت تمامًا".
شهادتها الشخصية تضيف بعدًا مأساويًا، فقد اضطرت لمغادرة السويداء إلى جرمانا للعلاج، ولم تتمكن من العودة بسبب خطورة الطريق.
هذه الشهادات تكشف أن الحصار لا يهدد فقط الأمن الغذائي، بل يفاقم أيضًا الأزمات الصحية ويعرض حياة آلاف المرضى للخطر.
ثامناً: السياسة.. صراع مرجعيات محلية ومركزية
التقارير الإعلامية وصفت الوضع السياسي في السويداء بأنه صراع على النفوذ بين الدولة السورية من جهة، وزعامات محلية كبرى مثل الشيخ حكمت الهجري من جهة أخرى.
الآنسة "ر.ش" قالت: "بعد الحصار والدمار، القرار أصبح في يد الكبار والعقلاء وقادة الرأي".
لكن "أبو فهد" وصف المشهد بأنه محاولة من الشيخ الهجري لتأسيس "دولة ضمن دولة" عبر فرض إذن خروج وحواجز مسلحة، ومطالبة بالانفصال عن سوريا.
وتبدو السويداء اليوم ساحة تجاذب بين ثلاث قوى رئيسية، الدولة السورية التي تحاول إعادة بسط نفوذها تدريجيًا عبر المؤسسات الرسمية، والفصائل المحلية التي يقودها الشيخ حكمت الهجري، وأطراف إقليمية تسعى لاستثمار خصوصية الطائفة الدرزية في الجنوب.
ومع المؤتمر الصحفي بدمشق اليوم، قال الشيباني: "اتفاق اليوم بداية مسار طويل نحو إعادة الأمور إلى طبيعتها في السويداء، وما نطرحه هو لمصلحة كل سوريا"، وأكد وضع خريطة طريق واضحة حول السويداء بدعم من الأردن والولايات المتحدة.
من جانبه أكد الصفدي أن الأحداث التي شهدتها السويداء مأساوية ولا بد من تجاوزها، مشدداً على أمن الجنوب السوري من أمن الأردن، وطالب بضرورة محاسبة مرتكبي الجرائم.
ويبقى البعد السياسي هو من يزيد من هشاشة الوضع الإنساني، إذ يصبح المواطن أسير سلطات متنازعة لا توفر له الحد الأدنى من الاستقرار، منتظراً تطبيقاً فعلياً للاتفاق لا سيما بالشق الإنساني بعيداً عن التجاذبات السياسية.
اتفاق بشأن السويداء وحلول تلوح بالأفق
التحقيق في أوضاع السويداء يكشف لوحة متناقضة، فتقارير دولية تقول إن الطريق فُتح والمساعدات دخلت، والأهالي يصرون على أن الحصار مستمر والمواد الأساسية مفقودة، بينما الدولة تعلن عن تهدئة أمنية ومحاولة حل وفق خارطة طريق متفق عليها مع الأردن وامريكا، لكن الفصائل المحلية تسيطر على المحافظة خارج إطار الدولة، وهناك يوجد حالات الاغتيالات والخطف التي لم تتوقف، وعلى الطرف الآخر إسرائيل التي تحاول الاستثمار بحالة الخلاف.
هذه التناقضات ليست تناقضات معلومات فحسب، بل تجسد واقعاً مركّباً يعيش فيه المواطن من أبناء السويداء، بين محاصر في يومياته، مثقل بهموم الماء والكهرباء، وعالق بين قوى محلية ودولية تتصارع على الأرض.
وبينما تتحدث الأمم المتحدة عن دخول قوافل مساعدات، تقول سيدة من المدينة بمرارة: "حتى لو بدك مي لازم تشتري صهريج غالي، الكهرباء معدومة، والأدوية مفقودة… الوضع دمار".
ومع إعلان عن حل وصف أنه "خطة طويلة" من قبل الشيباني والصفدي وباراك، يبدو أن بارقة أمل تلوح بالأفق لحلحلة القضايا الجدلية العالقة منذ أشهر وأهمها القضايا الإنسانية وفك "الحصار"، بانتظار ألا يطول البعد الإنساني ويرتبط بشق الاتفاق السياسي.