مقال رأي

اتفاقية “أضنة2” بين الواقع والممكن

أسرار اتفاقية أضنة (1)

في عام 1998، وقعت دمشق وأنقرة اتفاقاً أمنياً وعسكرياً تم بموجبه إخراج زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان من سوريا، ومنعه من العودة إليها نهائياً.

وذلك بعد أن مكث فيها طوال ثلاثة عقود، حيث يشكل حزبه حتى يومنا ورقة رابحة بيد النظام السوري لحماية أركانه، وكذلك ورقة رادعة في مواجهة الجهات التي قد تستهدفه في مرحلة ما. تفاصيل هذا الاتفاق لاتزال تثار حولها الكثير من الشكوك والتساؤلات، بينما الجانب الغامض فيه هو ما تم الاتفاق عليه بين البلدين والذي يتضمن السماح للجيش التركي بالتغلغل داخل الأراضي السورية وبعمق خمسة كيلومترات شريطة الانسحاب فور الانتهاء من المهمة.

كما تضمن الاتفاق أيضاً أربعة ملاحق، وهي احتفاظ تركيا بممارسة حقها الطبيعي في الدفاع عن النفس، و”تعويض عادل” عن خسائرها في الأرواح والممتلكات.

حينذاك، جنّب هذا الاتفاق المنطقة من حرب حتمية، وبالتالي العديد من بنوده مازالت غامضة حتى يوماً هذا، رغم أن الأمور وصلت وقتذاك إلى الصدام العسكري المباشر، لولا تدخل جامعة الدول العربية والرئيس المصري الراحل حسني مبارك، وتم على إثره توقيع الاتفاق في ولاية أضنة جنوبي تركيا بوساطة مصرية إيرانية.

الخاسر والرابح في اتفاقية أضنة

الرابح في الاتفاقية المذكورة، بطبيعة الحال هو النظام السوري، صحيح إنه خسر في الاتفاقية، لكنه لم يخسر المعركة، والدليل أنه رغم ما تم الاتفاق عليه في عام 1998 في أضنة، ورغم توقيعه على بروتوكول الاستسلام، لكنه أعاد ترتيب أوراقه من جديد، ولم يقطع “شعرة معاوية” مع حزب العمال الكردستاني، وأعاد استخدام قيادييه وعناصره من جديد، بعد عام 2011 وسلمّهم النفط والبترول، وسمح لهم بإنشاء كانتونات، والإعلان عن شبه دويلة في شرق الفرات انتقاماً من الأتراك بسبب دعمهم للمعارضة السورية.

كل ذلك قبل أن يدخل التحالف الدولي على خط المواجهة في 2015 لخلط الأوراق وركوب الموجة ذاتها، حتى أصبحت المنطقة برمتها في حالة فوضى وصراع دولي إقليمي على الجغرافية السورية، أما الخاسر في اتفاقية أضنة بطبيعة الحال هم الأتراك، بمعنى أنهم فرضوا على النظام السوري اتفاق الاستسلام برعاية مصرية – إيرانية وهذا صحيح، لكنهم لم يفلحوا في تنفيذها على أرض الواقع للقضاء على حزب يعتبرونه إرهابياً واجتثاثه من الجذور وسحب هذه الورقة بشكل كامل من يد النظام في دمشق، وبالتالي كل حديث عن المصالحة أو اتفاق جديد مع دمشق هو مضيعة للوقت، وخاصة بات اليوم يحتمي بغطاء إيراني روسي، وبالتالي لن يتخلى عن هذه الورقة مهما كلف الأمر، وحتى لو تنازل عن نصف سوريا لمصلحة المشروع الغربي- والإيراني في المنطقة.

أضنة (2) بين الممكن والواقع

ثمة حديث اليوم عن توقيع اتفاق جديد بين تركيا والنظام السوري برعاية روسية – إيرانية، وعند النظر إلى الضامنين للاتفاقية المفترضة. نستنتج على الفور بأنه طالما هما جزء من المشكلة داخل سوريا لا يمكنهما أن يكونا ضامنين للاتفاقية المفترضة وعامل استقرار في المنطقة، والمنطق يقول عند توقيع أية اتفاقية جديدة بين دمشق وأنقرة برعاية روسية – إيرانية، وحتى لو تمت تمريرها تحت مظلة “أستانة” لن تلقى النور، ولن تأخذ طريقها إلى التطبيق على أرض الواقع، وذلك لأن التحالف الدولي ممثلاً بالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، اللتين باتتا تشكلان اليوم لاعبتين أساسيتين داخل سوريا ولديهما حليف يمتلك جيشاً قوامه 70 ألف مقاتل، يسيطر على منابع النفط وعلى منطقة تشكل سلة الغذاء السوري هذا من جانب، ومن الجانب الآخر باتت تل أبيب بدورها تشكل اليوم حجر زاوية لأي حل سياسي مرتقب في سوريا، ولا يمكن تجاوزها عند توقيع أية اتفاقية تخص مستقبل شمال شرق سوريا.

منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، أعاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان طرح فكرة قديمة لديه بإقامة “منطقة آمنة” بعمق 35 كيلومتراً، محاولاً الاستفادة من تحسن موقف أنقرة التفاوضي بسبب حاجة واشنطن وموسكو لدورها في أوكرانيا وليبيا وسوريا، ورغم كل ذلك أعلنت واشنطن بوضوح رفض العملية العسكرية في شرق الفرات، فيما تولت موسكو التوسط بين أنقرة ودمشق، والأخيرة تحاول الاستفادة من التناقضات القائمة، ونشرت قواتها قبالة الحدود لردع الجيش التركي في حال قيامه بهجوم محتمل على منطقة شرق الفرات دون التنسيق معها ، بين هذا وذاك تحاول موسكو تطبيق اتفاقية أضنة بكامل تفاصيلها و عناوينها، وهذا ما تم الحديث عنه صراحة في قمة طهران التي عقدت قبل شهر من الآن بين الرؤساء الثلاثة ( أردوغان، بوتين، ورئيسي) وبالتالي الحديث عن اتفاقية أضنة بات الشغل الشاغل لدى الصحافة العربية والدولية. أنقرة تحاول تعويض خسائرها في الاتفاقية (أضنة) من خلال إعادة ترتيب أوراقها من جديد، كما أنها تحاول الالتفاف على الطروحات الروسية مطالبة إياها بتنفيذ الاتفاقية الموقعة في عام 2019 والتي تنص على مغادرة “وحدات حماية الشعب” وحزب العمال الكردستاني للشريط الحدودي بعمق 32 كم وفي حال لم تنسحب هذه القوات (بحسب الاتفاقية) فحينها ستبادر أنقرة بإخراجها بنفسها ولو بعملية عسكرية جديدة. الأتراك يعتقدون اليوم بأنه لم يتم تنفيذ ذلك على أرض الواقع، وبالتالي تجد نفسها اليوم مضطرة للانتقال إلى الخطة (ب) .

الخلاصة، في كل الأحوال، الانفتاح التركي اليوم على دعوة بوتين للتفاهم مع دمشق للقيام بعملية عسكرية جديدة محدودة في شرق الفرات لا يعني القبول باتفاقية أضنة، وربما هو مجرد مراعاة خاطر بوتين إمعاناً في المماطلة ريثما تتفق أنقرة مع واشنطن، وفي ضوء التهديدات التركية المستمرة للمناطق الحدودية في شرق الفرات، فإن العودة لتطبيق اتفاقية أضنة تلقائياً ليس كافياً، بل المطلوب وضع اتفاقية جديدة تراعي مصالح السوريين بجميع مكوناتهم و قومياتهم، وتنهي تواجد المنظمات الإرهابية، وبنفس الوقت تساهم في وقف نزيف الهجرة من المنطقة.

بالمحصلة، موسكو تبحث اليوم في الدفاتر القديمة، ولعل الصفحة المفتوحة في الدفتر الروسي الحالي تشير إلى اتفاقية أضنة الموقعة في عام 1998 كحل وسطي مع أنقرة، وهذا في الغالب الأعم لن يسرّ تركيا وتنفيذ الاتفاقية بات غير ممكن بالنسبة لها، إن لم نقل مستحيلاً، وبالتالي أنقرة تحاول اليوم فرض قواعد جديدة داخل المشهد السوري ولو من خلال تهديداتها المستمرة حول تنفيذ عملية عسكرية جديدة في شرق الفرات، وتطالب على الدوام واشنطن بالتوقف عن تقديم الدعم اللوجستي والعسكري لقوات سوريا الديمقراطية التي تشكل “وحدات حماية الشعب” عمودها الفقري (تصنفها أنقرة ضمن لائحة الإرهاب) ، وإعطائها دور أكبر في إدارة هذه المناطق، وفي حال حصلت أنقرة على ضوء اخضر أمريكي، فمن المرجّح أن تتوتر علاقاتها مع موسكو والتي من المحتمل أن تدفع النظامَ السوري لإجراء مصالحة مع قسد والتحالف معها، وتوظيف” وحدات حماية الشعب ” والجماعات المتحالفة معها في شمال وشرق سوريا ضد القوات التركية، بين هذا وذاك تجد أنقرة نفسها اليوم بين خيارين أحلاهما مرّ.

لكن بالمحصلة، ستنفذ ما تفكر فيها لأنها تعتبر تثبيت واقع جغرافي جديد داخل سوريا أمر مرفوض من قبلها، وبالتالي تنتظر توقيع اتفاقية أضنة 2، وفق شروطها التفاوضية، لأنها تعتقد في نهاية المطاف أن ثمن فاتورة عدم تنفيذ عمل عسكري جديد داخل سوريا أغلى بكثير من تنفيذها.

الكاتب السياسي: علي تمي

ملاحظة: ما جاء في المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع

اتفاقية أضنة
اتفاقية أضنة2 بين الواقع والممكن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى