أعلنت الولايات المتحدة عن إطلاق مبادرة استراتيجية جديدة تحت اسم «باكس سيليكا» (Pax Silica)، في خطوة تعكس تحوّلًا نوعيًا في مقاربة واشنطن للأمن الاقتصادي العالمي في عصر الذكاء الاصطناعي، المبادرة لا تقتصر على التعاون التكنولوجي، بل تهدف إلى إعادة بناء سلاسل الإمداد الحيوية التي يقوم عليها الاقتصاد الرقمي الحديث، من المعادن والطاقة وصولًا إلى الرقائق والبنية التحتية المتقدمة، وسط حضور لافت للإمارات كلاعب محوري في هذا التحالف الناشئ.
وفق بيان وزارة الخارجية الأمريكية، تسعى «باكس سيليكا» إلى إنشاء سلسلة إمداد سيليكون آمنة، مرنة، وقائمة على الابتكار، تشمل المعادن الحيوية، مدخلات الطاقة، التصنيع المتقدم، أشباه الموصلات، البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، والخدمات اللوجستية. وتؤكد واشنطن أن هذه المبادرة لا تستهدف عزل أي طرف، بل تهدف إلى التنسيق مع شركاء موثوقين للحفاظ على القدرة التنافسية والازدهار في ظل التحولات الاقتصادية العميقة التي يفرضها الذكاء الاصطناعي.
التحالف يضم مجموعة من الدول التي تُعد ركائز أساسية في سلاسل الإمداد التكنولوجية العالمية، من بينها اليابان، كوريا الجنوبية، سنغافورة، هولندا، المملكة المتحدة، إسرائيل، أستراليا، إضافة إلى الإمارات العربية المتحدة. وتُشير الخارجية الأميركية إلى أن هذه الدول مجتمعة تحتضن أهم الشركات والمستثمرين القادرين على دعم منظومة الذكاء الاصطناعي عالميًا، سواء على مستوى الإنتاج أو الابتكار أو التمويل.
تبرز الإمارات داخل هذا التحالف بوصفها شريكًا يتجاوز الدور التقليدي للدول المشاركة، فالإمارات لا تُقدَّم فقط كدولة مستهلكة للتكنولوجيا، بل كحلقة وصل استراتيجية بين الشرق والغرب، تمتلك بنية تحتية متقدمة في مجال الذكاء الاصطناعي، وشبكة علاقات دولية متوازنة مع القوى الكبرى، كما ترتبط أبوظبي وواشنطن بشراكات استثمارية في مجالات التعدين وتكرير المعادن الأرضية النادرة، وهي مواد تُعد أساسية لتصنيع الرقائق وتشغيل أنظمة الذكاء الاصطناعي.
وتأتي «باكس سيليكا» في سياق دولي يتسم بتزايد القلق من الاعتماد القسري في سلاسل الإمداد، خاصة في ظل الهيمنة الصينية على نسبة كبيرة من تكرير المعادن الأرضية النادرة عالميًا، وترى واشنطن وشركاؤها أن تأمين هذه السلاسل لم يعد مسألة اقتصادية فحسب، بل أصبح جزءًا لا يتجزأ من الأمن القومي والنمو طويل الأمد.
من الناحية العملية، تتجه الدول المشاركة إلى إطلاق مشاريع مشتركة لمعالجة نقاط الضعف في سلسلة إمداد الذكاء الاصطناعي، تشمل المعادن الحيوية ذات الأولوية، وتصميم وتصنيع وتغليف أشباه الموصلات، والخدمات اللوجستية والنقل، وشبكات الطاقة، إضافة إلى حماية التقنيات الحساسة والبنية التحتية الحيوية من أي وصول أو سيطرة غير مرغوب فيها.
اسم المبادرة نفسه يحمل دلالات سياسية واقتصادية واضحة. فمصطلح «باكس» اللاتيني يحيل إلى مفاهيم السلام والاستقرار والازدهار طويل الأمد، كما في «باكس رومانا» و«باكس أمريكانا»، بينما تشير «سيليكا» إلى الأساس الكيميائي للسيليكون الذي تقوم عليه صناعة الرقائق، وبذلك، تسعى واشنطن إلى ترسيخ نظام اقتصادي جديد يكون الذكاء الاصطناعي محركه الأساسي.
في المحصلة، لا يمكن قراءة «باكس سيليكا» بمعزل عن التحولات الكبرى في ميزان القوة العالمي، فالتحالف يعكس محاولة أمريكية لإعادة تنظيم الاقتصاد التقني العالمي عبر شراكات انتقائية، وفي هذا الإطار، تبرز الإمارات كلاعب محوري قادر على الجمع بين الاستثمار، والبنية التحتية، والتموضع الجيوسياسي، ما يجعلها أحد أعمدة هذا التشكيل الدولي الجديد في عصر الذكاء الاصطناعي.