في مشهد إقليمي متشابك، يجد العراق نفسه في قلب لعبة معقدة بين واشنطن وطهران، فمذكرة تفاهم أمنية مع إيران فجّرت انزعاجًا أمريكيًا، وسط حديث عن احتمال مواجهة إيرانية–إسرائيلية جديدة قد تجعل الأراضي العراقية ساحة لصراع بالوكالة، وبين دعوات ضبط سلاح الفصائل الموالية لإيران، وضغوط اقتصادية أمريكية، وصراع انتخابي داخلي محتدم، تبدو الحكومة العراقية أمام اختبار عسير: كيف توازن بين الشريك الأمريكي والجوار الإيراني من دون أن تدفع البلاد ثمن الحرب المقبلة؟
لماذا انزعجت الولايات المتحدة من مذكرة التفاهم مع إيران؟
مع توقيع مذكرة التفاهم الأمنية الأخيرة بين بغداد وطهران، ارتفعت نبرة الانزعاج الأمريكي بشكل لافت. واشنطن لم تُخف خشيتها من أن تكون هذه الخطوة مقدمة لتحوّل العراق إلى دولة تابعة لإيران. فقد قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض تامي بروس إن مثل هذه الاتفاقيات قد تُكرّس نهج التبعية السياسية وتدفع واشنطن إلى إعادة النظر في دعمها، وهو ما يبدو شرخ جديد في العلاقة المتوترة مؤخراً بين العراق وأمريكا بسبب إيران تحديداً.
ويشرح المحلل السياسي العراقي نظير الكندوري، خلال حديث مع وكالة ستيب نيوز، ذلك بقوله: "أبدت واشنطن انزعاجها الشديد من مذكرة التفاهم الأمنية التي وقعها العراق مع إيران... إذ أعربت عن خشيتها من أن مثل هذه الاتفاقيات قد تحوّل العراق إلى دولة تابعة لإيران".
ويضيف: "الحكومات العراقية الحالية والسابقة فشلت في الحفاظ على علاقة متوازنة بين واشنطن وطهران، ما يجعل التوازن أمرًا متعذرًا في ظل التطورات الحالية"، متابعًا: "إذا أصرت بغداد على عدم تخفيف علاقاتها مع إيران، فمن المتوقع أن ترفع واشنطن دعمها عن النظام السياسي العراقي وتعريضه لصعوبات سياسية واقتصادية".
وكانت تقارير غربية تحدثت أن التفاهم الأمني يُقرأ في واشنطن كرسالة اصطفاف لصالح طهران في وقت حساس، خصوصًا مع التحضيرات الإقليمية لمواجهة محتملة ثانية بين إيران وإسرائيل.
هل يحتاج العراق فعلًا لهذه الاتفاقيات؟ أم أنه ميل لصالح إيران؟
الطرح الرسمي العراقي يقول إن الاتفاقات ذات طابع "حدودي–أمني" هدفها منع التهديدات عبر الحدود وضبط نشاط الجماعات المسلحة المعارضة لإيران، لاسيما الكردية منها، والتي كانت طهران تطالب مراراً بضرورة تحييدها عن المشهد.
لكن قراءة الكندوري تختلف؛ إذ يوضح: "العراق ليس بحاجة لمثل هذه الاتفاقيات الأمنية مع إيران بقدر احتياج إيران لها، لكن الضغوط الداخلية من قبل الأطراف المرتبطة بإيران هي التي تدفع الحكومة لتوقيع مثل هذه الاتفاقيات".
ويُذكّر الكندوري بأن المذكرة الأخيرة امتداد لمذكرة موقّعة في 19 مارس/آذار 2023، عندما طالبت طهران بإبعاد جماعات كردية مناهضة لها بعد سلسلة ضربات إيرانية عبر الحدود.
ويضيف: "واشنطن اعترضت على الاتفاقية الأخيرة لأنها ربطتها بالجهود الإيرانية لتوحيد المحور الإيراني في مواجهته لإسرائيل أو الولايات المتحدة".
التقارير الإعلامية أشارت فعلًا إلى أن زيارة أمين مجلس الأمن القومي الإيراني علي لاريجاني إلى بغداد قبل أيام جاءت في هذا السياق، إذ التقى قادة فصائل عراقية مقرّبة من طهران، وتم الحديث عن تشكيل خلية تنسيق أمني ثلاثي تضم إيران وحزب الله اللبناني وفصائل عراقية، في محاولة لإعادة هندسة مشهد علاقة إيران بأذرعها العسكرية بالمنطقة بعد الخسائر التي منيت بها، وهو ما وضع بغداد عمليًا أقرب إلى محور إقليمي مضاد للولايات المتحدة، ولو على مستوى التصورات.
إعادة التموضع الأمريكي واحتمال تحوّل العراق ساحة مواجهة
التحركات الأمريكية الأخيرة في المنطقة، بما فيها تعزيزات عسكرية وتحريك حاملة الطائرات "نيميتز" باتجاه الشرق الأوسط إضافة لتحركات ميدانية في قواعدها في العراق، أثارت تساؤلات حول ما إذا كان العراق سيتحوّل إلى ساحة صراع محتملة في حال اندلاع جولة جديدة إيرانية–إسرائيلية، او أنها تحوي رسائلاً مختلفة.
يعلّق الكندوري: "الأنباء التي تم تداولها حول انسحاب بعض القطعات العسكرية في قاعدة عين الأسد والتي كذبتها الحكومة العراقية، ربما تندرج ضمن سلسلة الضغوط التي تمارسها واشنطن على بغداد"، لافتًا إلى أن "هذه الانسحابات إن كانت حقيقية، لا تندرج ضمن الجدول الزمني لانسحاب القوات الأمريكية وفق الاتفاق المبرم بين بغداد وواشنطن".
ويتابع موضحًا: "ربما تندرج ضمن التحضيرات الأمريكية للضربة الأمريكية–الإسرائيلية ضد إيران، لتجنب تعرض قواتها لضربات من قبل إيران أو الفصائل العراقية المسلحة".
ويرجّح الخبير أن العراق سيكون إحدى ساحات المواجهة: "بل أن تصريحات قادة بعض الفصائل العراقية المقربة لإيران، والتي حملت تحديًا واضحًا لأمريكا وإسرائيل، تفهم على أن الفصائل معنية بالدخول بأي صراع عسكري يستهدف إيران".
وكانت تقديرات أمنية غربية اعتبرت أن العـراق جزء من شبكة مسارح محتملة لأي صراع، بحكم وجود قواعد أمريكية وفصائل مسلحة مرتبطة بإيران قادرة على التحرك ضد مصالح واشنطن وتل أبيب، ورغم أنها لم تتدخل خلال جولة القصف المتبادل الأخيرة بين إيران وإسرائيل، إلا أن طهران تتوعد بتصعيد أكبر في حال اندلاع المواجهة الجديدة.
سلاح الفصائل… ملف متفجر بين الداخل والخارج
وسط هذه التجاذبات طرح ملف سحب أو ضبط سلاح الفصائل الموالية لإيران في العـراق رغم أنه من أعقد الملفات داخل البلاد. فبينما أعلن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني دعوته لدمج الفصائل وضبط سلاحها تحت سلطة الدولة، تواجه هذه الخطوة مقاومة شديدة من قبل تلك الفصائل.
الكندوري يصف المشهد بوضوح: "لغة التحدي التي تستخدمها الفصائل المسلحة العـراقية ضد الحكومة وضد تصريحات السوداني، تأتي مع تصاعد المطالبات الداخلية والخارجية بنزع سلاحها أو دمجها مع القوات المسلحة العراقية".
ويضيف: "يبدو أن الولايات المتحدة جادة في نزع سلاح تلك الفصائل كما هو الحال بموضوع نزع سلاح حزب الله اللبناني، وقد قامت بالفعل ببعض التضييقات المالية على الحشد الشعبي مثل أزمة دفع الرواتب أو من خلال زيادة تمويل جهاز مكافحة الإرهاب على حساب وزارة الدفاع التي ينتمي لها الحشد إداريًا".
ويحذر الخبير: "لا نستبعد إذا ما شاركت تلك الفصائل بأي هجوم عسكري على القوات الأمريكية أو استهداف إسرائيل، أن يقوم الطيران الأمريكي أو الإسرائيلي باستهداف قادة تلك الفصائل أو مقراتها المنتشرة بالعراق".
سياسيًا، يوضح الكندوري أن الملف أصبح ورقة صراع انتخابي: "القوى السياسية العراقية منقسمة حول موضوع نزع سلاح الفصائل، والجميع يستغله في الدعاية الانتخابية، فيما الفصائل مستمرة برفع نبرة خطابها، إلى حد نعتقد معه أن صراعًا عسكريًا بينها وبين الحكومة قد يندلع في أي وقت".
الـعراق دخل قلب العاصفة
ما بين مذكرة تفاهم مع إيران أثارت حفيظة واشنطن، وتحركات عسكرية أمريكية مرتبطة بظل مواجهة محتملة مع طهران، وانقسام داخلي حاد حول سلاح الفصائل، يجد العراق نفسه في قلب عاصفة إقليمية لا يملك وحده مفاتيحها.
تحليل نظير الكندوري يرسم مشهدًا قاتمًا، من خلال انزعاج أمريكي قد يتطور إلى رفع دعم سياسي واقتصادي، وضغوط داخلية من فصائل مرتبطة بطهران تدفع بغداد لمزيد من الارتباط بإيران، واحتمالات عالية لتحول البلاد إلى ساحة مواجهة.
في النهاية، السؤال ليس فقط كيف يوازن العـراق بين واشنطن وطهران، بل كيف يمنع أن يتحول إلى وقود حرب الآخرين على أرضه، والنجاح في هذا التحدي لا يعتمد على النصوص الرسمية وحدها، بل على قدرة بغداد على هندسة توازنات دقيقة بين الداخل والخارج، وعلى ما إذا كان اللاعبون الكبار مستعدين لترك العراق خارج معادلة المواجهة المقبلة.
[caption id="attachment_650762" align="alignnone" width="2405"]

العراق يدخل قلب العاصفة.. اتفاق مع إيران "فجّر" الأزمة مع واشنطن وتحرك عسكري "خطير" يلوح بالأفق[/caption]
https://youtu.be/xrcxi7RU7SQ?si=qd8NXzXA-REWptpI