أعادت عودة وظهور شخصيات من رجال الأعمال المقربين من عائلة الأسد إلى الواجهة في سوريا فتح جراح لم تندمل بعد، وأشعلت غضب الشارع الذي ما زال يطالب بالعدالة ومحاسبة المتورطين في الفساد وتمويل آلة القمع. ففي الوقت الذي ينتظر فيه السوريون مرحلة انتقالية تعيد إليهم شيئاً من حقوقهم المسلوبة، يجدون أنفسهم أمام إعادة تدوير لوجوه ارتبطت بالاستبداد والنهب، لتتحول الأسئلة إلى صرخة علنية: لماذا يُسمح لهؤلاء بالعودة إلى الحياة العامة بدلاً من محاكمتهم على ما ارتكبوه من جرائم بحق الشعب؟
عودة الأباطرة.. شرخ جديد في جدار العدالة
تُلف العودة المشبوهة لرجال أعمال كانوا في قلب آلة النظام السابق غلالة من الغضب الذي لا يهدأ في الشارع السوري، هؤلاء الذين نسخوا الفساد إلى مؤسسات الدولة، وراحوا ينهبون ثروات الشعب تحت حماية سياسية خلال حقبة الأسد، يعودون اليوم مقدمين تبرعات بملايين الدولارات "المشبوهة"، بينما لا أثر للعدالة، ولا مكان للمحاسبة الصارمة.
وعاد الجدل لهذه القضية بعد أن ظهرت عائلة "حمشو" خلال افتتاح صندوق التنمية السوري، حيث قدمت هذه العائلة مبلغ مليون دولار، إلا أن هذا التقديم لم يمر مرور الكرام لدى السوريين.
محمد حمشو، الذي كان بمثابة الذراع الاقتصادية لماهر الأسد، ارتبط اسمه بكل القطاعات، من الكابلات والصناعات إلى الإعلام والعقارات، وورد اسمه بعقوبات قانون “قيصر”، لكنه عاد إلى دمشق في يناير الماضي وفق تقارير صحفية، متخليًا عن نحو 80% من أصوله التي تُقدّر بأكثر من 640 مليون دولار، لكنه بقي يملك حوالي 150 مليون دولار، ولا يزال يسيطر على العديد من الشركات.
وفي حديث لوكالة ستيب نيوز، يقول المحلل الاقتصادي السوري، يونس الكريم: "عائلة حمشو الآن تحاول امتصاص غضب الشارع السوري، والعودة إلى الانخراط بالحياة العامة مع الحكومة الجديدة عبر مراحل متدرجة. المرحلة الأولى بدأت بالظهور المتقطع والخفيف كنوع من امتصاص الصدمة، ثم المرحلة الثانية عبر الاجتماعات أو التجمعات الخيرية والمساهمة المجتمعية. لاحقاً سنلاحظ انتقالهم إلى الحياة التجارية، ومن ثم إلى الحياة السياسية الرسمية، سواء عبر غرف التجارة أو الصناعة بدمشق والقضايا المعيشية".
أوليغارش الحرب والنهب في سوريا
لم يكن "حمشو" وحده من عاد لسوريا ويعرف عنه ارتباطه بعائلة الأسد، بل إن هناك عدة رجال أعمال وصفوا بأنهم "حيتان السوق" وواجهة عائلة الأسد الاقتصادية، قادوا على مدار سنوات "اقتصاد الظل" لنظام بشار الأسد المخلوع، عادوا بصمت ومازالت شركاتهم تمارس أعمالها بشكل أو آخر.
ومن بين هؤلاء "سامر الفوز"، حيث ذكر تقرير لوكالة رويترز قبل أشهر أنه عاد لدمشق، وهو من رجال الأعمال الذين بنوا إمبراطوريتهم على أنقاض الحرب، وحسب التقارير أنه دخل بمفاوضات مع السلطات السورية للتخلي عن جزء من ثروته التي تقدّر بـ 800 مليون دولار، مدفوعاً بوساطة تركية لا سيما أنه يحمل الجنسية التركية.
يقول يونس الكريم: "عملية تدوير هذه الشخصيات تختلف من فرد لآخر. على سبيل المثال: بعضها عبر علاقات دولية مثل محمد حمشو رجل مقرب من موسكو، وابنه أحمد حمشو كان يتردد إلى موسكو، وسامر الفوز عبر تركيا".
ويضيف: " آخرون حصلوا على حماية من خلال "الفدية"، أي دفع الأموال للسلطة في دمشق، سواء عبر المجلس الأعلى للاقتصاد أو لبعض الأمنيين المقيمين في فنادق العاصمة، وحتى لبعض الإعلاميين التابعين للسلطة للتقرّب لها".
ويشير الكريم إلى أن هناك شخصيات تلعب دور الوساطة في عملية "التدوير" وهم "طريف الأخرس والمرسومي ومدلول عبد العزيز"، ويؤكد أن آخرين فشلت عملية إعادتهم مثل "القاطرجي" الذي حاول العودة عبر وساطة "ناصر الرعد".
ويتابع الكريم: " تختلف التسويات: بين الأموال، والعلاقات الدولية، وأحياناً عبر العلاقات الاجتماعية والمعرفة الشخصية".
ما وراء التسويات والتدوير؟
نشرت وكالة رويترز في فبراير الماضي تقريراً يتحدث عن عملية التسويات بين رجال الأعمال المرتبطين بنظام الأسد والسلطات السورية الجديدة، وحسب التقرير شكلت دمشق فريقاً مقرباً من دائرة الرئاسة لبحث هذا الملف تحت شعار "حملة للقضاء على الفساد والنشاط غير القانوني في الملف الاقتصادي".
وأوضح التقرير حينها أن وجهة نظر هذا الفريق أن إعادة تدوير هذه الشخصيات يهدف للحفاظ على عجلة الاقتصاد بالبلاد المنهكة اقتصادياً والتي عانت لسنوات تحت وطأة العقوبات.
يقول الكريم: " كل الصفقات التي جرت للتغاضي عن هذه الشخصيات غير معلنة. لا توجد أي صفقة معلنة، وكلها تتم عبر علاقات شخصية وضغوط دولية. ولن تُظهر للعلن أبداً، لأن الذين تمت الموافقة عليهم لا يملكون أي مبرر أمام الشارع السوري الذي ينتظر تحقيق العدالة. إظهار هذه التبريرات يلغي فكرة العدالة الانتقالية، ويجعلها عدالة انتقائية، وهو ما لا يمكن القبول به".
ويضيف: " معظم هذه الشخصيات تعاني من حصار اقتصادي دولي وعقوبات قانونية وملاحقات بالخارج بسبب تورطها إما بجرائم حرب أو بتجارة المخدرات. لذلك لا يستطيعون مغادرة سوريا إلا إلى دول لديهم فيها استثمارات ضخمة تستفيد منهم اقتصادياً".
ويتابع: " عودتهم للحياة الاقتصادية السورية ستعرض السوريين مجدداً لخسائر، لأنها ستكسبهم أعداءً جدد من المجتمع الدولي، الذي كان جزءاً من إسقاط الأسد أو غضّ النظر عنه بهدف التخلص من هؤلاء الذين أداروا شبكات أعمال غير مشروعة أضرت بدول عدة، بدءاً من الجوار الإقليمي".
المساءلة الحقيقية.. غائب ملموس
يرى الخبراء أن الاستثمار الحقيقي في سوريا الجديدة لا يتطلب عودة السماسرة، بل يتطلب محاكمات شفافة، ومساءلة علنية، ومؤسسات اقتصادية جديدة تأتي من رحم النزاهة لا من بقاع الفساد.
يقول الكريم: "يوجد مساران في ملف الملاحقة القانونية لهذه الشخصيات، الأول داخلي: فوجودها مع الحكومة بمكان واحد يعني أنهم باتوا خارج المساءلة، رغم أن المتضررين من الشعب يمكنهم رفع قضايا ضد هؤلاء بالمحاكم المختصة وتقديم الإثباتات لتجريمهم".
ويضيف: " تلميع عائلة حمشو لها بعد يتعلق بعلاقاتها الكثيرة مع بعض الدول العربية، ويُعتقد أن خلف عملية التلميع محاولة لإعطائهم الأمان وإعادة تعويمهم".
ويرى الخبير الاقتصادي أن هناك مسار خارجي وسياسي حيث تعتبر عائلة حمشو صلة ربط مع روسيا التي زارها أحمد حمشو عام 2024 ونسّق معها بالملف السوري، إلى جانب شقيقتهم سمية حمشو وهي والدة عائلة الخياط التي تبرعت بمبلغ ضخم لصندوق التنمية السوري، بمبلغ 25 مليون دولار.
وعائلة الخياط تملك الجنسية القطرية ولديها شركات ضخمة أبرزها UCC Holding التي تعمل بمجال المقاولات والبنية التحتية، وحصلت مؤخراً على عقود استثمار في سوريا تشمل تطوير مطار دمشق الدولي، وعقود بمجال الطاقة الكهربائية عبر إقامة محطات توليد جديدة.
وتشير مصادر إلى أن دولة قطر استخدمت "نفوذها الناعم" لإزالة اسم "سمية حمشو" من قوائم عقوبات قيصر الأمريكية، حيث ورد اسمها في القائمة الأولى.
ويؤكد "الكريم" أن العقوبات الدولية ستبقى على هذه الشخصيات مهما قدمت من تسويات في سوريا.
إنّ عودة رجال الأعمال الذين بنوا إمبراطورياتهم على أنقاض سوريا الجريحة ليست سوى صفعة جديدة لآمال السوريين بالعدالة والمحاسبة، فبدلاً من أن يقف هؤلاء أمام المحاكم ليواجهوا جرائم الفساد والنهب وتمويل آلة القمع، يُعاد تدويرهم في المشهد الاقتصادي والسياسي وكأن شيئاً لم يكن.
اقرأ أيضاً|| هل العفو عن الجلادين هو الطريق إلى السلام؟ جدل في سوريا حول "العدالة الانتقائية" وحقوقيون يكشفون ما يجب تداركه قبل "الكارثة"