في تطور نوعي يهدد بإشعال مزيد من التوتر في القارة الأوروبية، أعلنت السلطات البولندية أنها رصدت بدقة 19 خرقاً للمجال الجوي للبلاد بواسطة طائرات مسيّرة روسية، وهذا الحدث وصفته وارسو بأنه "غير مسبوق" منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، إذ إن هذه المرة لم تقتصر الهجمات على أوكرانيا بل امتدت إلى أجواء دولة عضو في حلف شمال الأطلسي، ما اعتبره خبراء ومراقبون رسالة روسية متعددة الأبعاد.
وقالت وزارة الدفاع البولندية إن طائراتها المقاتلة دخلت على الفور في حالة استنفار، وشاركت في عمليات التصدي مقاتلات تابعة للناتو بينها طائرات هولندية من طراز "إف-35"، وأسفرت العمليات عن إسقاط عدد من المسيّرات، فيما عُثر على حطام سبع منها في مناطق شرقية من البلاد، ولم تُسجل خسائر بشرية، لكن بعض الأبنية والمزارع تعرضت لأضرار طفيفة، ما أثار قلق السكان الذين تلقوا تحذيرات عبر الهواتف المحمولة بضرورة البقاء في منازلهم.
استنفار بولندي ومشاورات عاجلة مع الناتو
رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك لم يتأخر في توصيف الموقف، حيث وصف ما جرى بأنه "استفزاز واسع النطاق" يستهدف اختبار قدرة بولندا وحلفائها على الردع.
وقال توسك في كلمة أمام البرلمان: "لقد سجلنا 19 اختراقاً جويّاً خلال ساعات قليلة، وهذا أمر لا يمكن اعتباره حادثاً عرضياً أو مجرد خطأ تقني"، وأعلن أن الحكومة قررت الدعوة إلى "جلسة طارئة للبرلمان"، إلى جانب تفعيل المادة الرابعة من معاهدة حلف شمال الأطلسي، التي تنص على إجراء مشاورات بين الحلفاء عندما يتعرض أحد الأعضاء لتهديد مباشر.
الجيش البولندي من جهته أوضح أن الدفاعات الجوية تعاملت مع الموقف وفق البروتوكولات المعتمدة، وأن القوات ظلت في حالة تأهب قصوى لعدة ساعات تحسباً لأي تصعيد جديد، وأكدت القيادة العملياتية أن ما جرى "يمثل اختباراً حقيقياً لمنظومة الدفاع الجوي البولندية، التي تمكنت من الاستجابة الفورية".
المواقف الأوروبية والدولية: بين التضامن والحذر
لم يقتصر الصدى على بولندا وحدها، إذ سارع "الاتحاد الأوروبي" إلى إصدار بيان يدين ما وصفه بـ"الانتهاك الخطير وغير المقبول" للسيادة البولندية، مشدداً على أن أمن بولندا هو من أمن القارة الأوروبية بأسرها، كما دعا الاتحاد إلى "مزيد من التضامن بين الدول الأعضاء" لمواجهة أي تهديدات مشابهة في المستقبل.
أما الأمين العام لحلف الناتو مارك روته فقد أكد أن الحلف يتابع الوضع عن قرب، وأنه على تواصل مستمر مع القيادة البولندية، مضيفاً: "نحن مستعدون لمشاورات معمقة ولدعم بولندا بكل الوسائل المتاحة"، لكنه في الوقت ذاته حرص على التهدئة، مشيراً إلى أن الحلف لا يسعى إلى التصعيد بل إلى حماية أعضائه وضمان أمنهم.
في المقابل، صدرت عن موسكو تصريحات متباينة. فبينما لم تعترف وزارة الدفاع الروسية صراحة بمسؤوليتها عن الحادث، ألمحت بعض التصريحات إلى أن بعض الأجسام قد تكون مسيّرات أوكرانية خرجت عن مسارها، كما حاولت موسكو الإيحاء بأن الأمر قد يكون نتيجة خطأ تقني أو مبالغة في التقديرات البولندية، في محاولة لتخفيف الضغط الدولي عنها.
قراءة في الرسالة الروسية
تؤكد مصادر بولندية أن هذه الاختراقات لم تكن حادثاً عرضياً، بل عملية منسقة تحمل أبعاداً سياسية وعسكرية، وفي هذا السياق، قدّم الخبير والمحلل السياسي حيدر سليمان، خلال حديث لوكالة ستيب نيوز، قراءة معمقة للحادثة، مؤكداً أنها ليست مجرد خلل في التقدير، بل جزء من رسالة روسية واضحة.
وقال: "أولاً كانت التقديرات الأولية تشير إلى وجود ثلاث مسيّرات فقط، وربما كان ذلك عامل خطأ، لكن لاحقاً تبيّن أن عدد المسيّرات تجاوز الخمسين واستهدفت مناطق متعددة. لذلك فإن القول بوجود خطأ في التقدير أمر مستبعد تماماً، خصوصاً أن اثنتين من تلك المسيّرات وصلتا إلى العمق البولندي لمسافة تقارب 150 كيلومتراً، وبعضها تجاوز 180 كيلومتراً. هذا يعني أن العملية لم تكن عفوية أو عرضية، بل جرت وفق تخطيط مسبق، وبحسب الأصول".
ويضيف سليمان: "الرسالة الروسية كانت واضحة، إذ أرادت موسكو أن تقول: أستطيع الوصول إلى ما هو أبعد من
شبح الحرب العالمية الثالثة
في ضوء التحذيرات الأوروبية من مخاطر توسع الحرب، يرى مراقبون أن ما حدث في بولندا قد يكون مؤشراً على تحول نوعي في مسار الأزمة.
يوضح سليمان: "الحرب الجارية حالياً في أوكرانيا ليست عالمية بعد، لكنها أشبه بحرب نصف عالمية، لأن أطرافاً متعددة من دول مختلفة تشارك فيها، لكن الساحة ما زالت محصورة، غير أن توسع ساحات المواجهة قد يحوّلها إلى حرب عالمية بالفعل".
وأشار إلى أن الأوروبيين "استوعبوا الرسالة الروسية، وهم حالياً يدرسون تداعياتها بجدية"، لافتاً إلى أن الواقع الحالي يكشف عن تباعد متزايد بين أوروبا والولايات المتحدة، على الرغم من أن الأخيرة كانت الضامن التقليدي لأمن القارة.
وأضاف: "اللافت أن الجانب الأمريكي لم يصدر عنه تعليق مباشر، وهو ما دفع قادة الاتحاد الأوروبي للقول إننا بحاجة إلى نظام عالمي جديد بقرار أوروبي موحد".
سيناريوهات مقبلة واحتمالات متباينة
مع بحث بولندا وشركائها في الناتو عن الرد المناسب، تطرح تساؤلات حول الخطوة التالية.
في هذا السياق، يرى سليمان أن ما يجري اليوم لا يتجاوز حدود استعراض القوة الروسي، موضحاً: "خلال الفترة الماضية غيّر الأوروبيون لهجتهم، فبعد أن كانوا يدعمون أوكرانيا بلا حدود لمواجهة روسيا، أصبحوا يبحثون اليوم عمّن يوقف الحرب. لقد أدركوا أن روسيا متمكنة ميدانياً، وأن الضغوط لم تعد ذات جدوى في الوقت ذاته يدرك الروس أن ثمة تراجعاً أمريكياً، لأن واشنطن تريد من أوروبا أن تبقى في المواجهة بينما تحاول هي استخدام روسيا كورقة في مواجهة الصين".
وحول احتمالات لجوء أوروبا إلى واشنطن، أوضح: "الأوروبيون مضطرون لذلك عاجلاً أم آجلاً. صحيح أن لديهم صناعات دفاعية متطورة، لا سيما في بريطانيا، لكنهم يواجهون مشكلات في الذخائر ونقصاً في الطائرات والتدريب. لذلك سيبقون بحاجة إلى واشنطن. المشكلة أن الإدارة الأمريكية الحالية لا تريد التورط في مواجهة مباشرة مع روسيا، بخلاف ما كان عليه الأمر في إدارة بايدن".
أزمات السلاح والذخيرة: نقطة ضعف أوروبية
تقرير نشرته وسائل إعلام أوروبية مؤخراً أكد أن بعض الجيوش، وعلى رأسها الجيش الألماني، تواجه نقصاً حاداً في الذخيرة، وهذا الواقع ينسجم مع ما أكده سليمان في تحليله
إذ يقول: "هذه الحرب كشفت أن أوروبا ليست مستعدة لمواجهة طويلة الأمد من دون الاعتماد على الدعم الأمريكي. حتى لو كانت بعض الدول تنتج منظومات دفاعية متطورة، فإن مشكلات الذخيرة والتدريب ستبقى قائمة".
وأضاف: "هناك أيضاً ضغط شعبي متزايد داخل أوروبا لإنهاء الحرب، بعدما بات واضحاً أن روسيا مصممة على تحقيق أهدافها. الروس يسيطرون حالياً على معظم الأراضي التي يريدونها تقريباً، بما فيها أجزاء من دونيتسك ولوغانسك، إضافة إلى القرم. وبالنسبة لموسكو، فهي مستعدة للتفاوض على بعض المناطق التي سيطرت عليها، لكن الهدف الأساسي يبقى تثبيت سيطرتها على لوغانسك ودونيتسك".
واقع جديد ومعادلات متغيرة
مع كل هذه التطورات، يتفق المراقبون على أن أوروبا تدخل مرحلة حساسة تحتاج فيها إلى إعادة صياغة استراتيجيتها الأمنية.
ويختتم سليمان قائلاً: "نحن أمام سيناريو واضح: روسيا متقدمة، ورسالتها وصلت، أوروبا لا تملك سوى الاستنجاد بالولايات المتحدة لتحقيق توازن نسبي، لكن الإدارة الأمريكية لا ترغب في مواجهة مفتوحة مع موسكو. وبالتالي نحن أمام واقع جديد يفرض إعادة صياغة موازين القوى والنظام الدولي".
تؤكد الحادثة الأخيرة أن الحرب في أوكرانيا لم تعد محصورة داخل حدودها، بل باتت تهدد أمن الدول الأوروبية المجاورة بشكل مباشر، فبولندا، التي لطالما حذرت من "التهديد الروسي"، وجدت نفسها فجأة أمام اختبار أمني خطير، فيما أوروبا تعيش مأزقاً مزدوجاً بين الحاجة إلى التضامن الداخلي والاعتماد المستمر على الولايات المتحدة. وبينما ترسل موسكو إشارات بأنها قادرة على توسيع رقعة المواجهة متى شاءت، يبدو الغرب مضطراً لإعادة تقييم استراتيجيته، في ظل عالم تتغير موازينه بسرعة.