بقلم: عدي الصالحي_ رغم تراجع تنظيم "داعش" عسكريًا في سوريا، إلا أن هزيمته الميدانية لم تُنهِ الأسئلة التي سمحت بظهوره وانتشاره، فالتنظيم لم يكن مجرد قوة مسلحة، بل تعبيرًا عن فراغ سياسي وثقافي واجتماعي نشأ عبر عقود من انهيار الثقة بين المجتمع والدولة، وتراجع دور المؤسسات التعليمية والدينية، وضعف القدرة على إنتاج خطاب وطني جامع، ومع إعلان الحكومة السورية الجديدة توقيع اتفاق تعاون سياسي مع التحالف الدولي ضد "داعش"، يبرز سؤال جوهري: كيف ستواجه دمشق التحدي الفكري والاجتماعي المرتبط بمرحلة ما بعد التنظيم؟
الحديث هنا لا يتعلق فقط بتأمين المناطق أو دمج قوى محلية في الجيش، بل بإعادة بناء البنى التي تشكّل الوعي داخل المجتمع, فالتنظيم تمدد سابقًا في بيئات تآكل فيها التعليم العام، وضعفت فيها مناهج التفكير النقدي، وتراجع فيها حضور الدولة بوصفها مرجعًا للعدالة والشرعية, المدارس في مناطق واسعة من سوريا — خلال سنوات الصراع — تحولت إلى مساحات انقطاع معرفي؛ جيل كامل خرج من العملية التعليمية أو تلقى تعليمه في سياقات موازية، بعضها تحت سلطة جماعات مسلحة، ما جعل فجوة الوعي أكبر من أن تُعالج بقرارات إدارية سريعة.
الأمر ذاته ينطبق على الفضاء الديني, فالمساجد بعد 2011 لم تكن كيانات موحدة؛ بعضها كان تحت سيطرة قوى محلية مختلفة، تتراوح خطاباتها بين التقليدي والمحرض والمسلح, والمؤسسات الدينية الرسمية تراجعت قدرتها على التأثير نتيجة فقدان الثقة، بينما حلت محلها شبكات غير رسمية من الوعاظ والخطباء الذين قدموا تفسيرات مغلقة للعالم، تقوم على الصدام والفرز, استعادة هذا المجال تتطلب ليس فقط ضبط المنابر، بل إعادة بناء خطاب ديني قادر على تقديم معنى ومعايير أخلاقية دون الوقوع في التسييس أو التلقين.
أما على مستوى المجتمع، فالمشكلة لا تتعلق بـ"الأفكار المتطرفة" فقط، بل بالشعور الجماعي بالظلم والإقصاء وفقدان المستقبل. الخطاب الجهادي وجد أرضًا خصبة لأنه قدم للفرد دورًا ورسالة في عالم بدا بلا اتجاه, ولذلك، فإن مواجهة هذا الخطاب تتطلب مشروعًا اجتماعيًا يعيد الاعتبار للعدالة والمشاركة والجدوى, أي أن نجاح الحكومة السورية الجديدة في منع عودة التطرف لن يُقاس فقط بقدرتها على ضبط الأمن، بل بقدرتها على إنتاج نظام تعليمي يعزز التفكير لا الحفظ، ومؤسسة دينية تقدم فهمًا عقلانيًا وهادئًا للدين، وخطابًا إعلاميًا يعيد تشكيل مفهوم الانتماء الوطني خارج الانقسامات.باختصار، التحدي أمام دمشق ليس التخلص من "بقايا" التنظيم، بل معالجة الشروط التي جعلته ممكنًا, وإذا لم يُعالج هذا المستوى، فإن التنظيم لن يعود بالضرورة بالشعار نفسه أو الاسم نفسه، لكنه قد يظهر في أشكال جديدة تحمل البنية الذهنية ذاتها.
🔹 ملاحظة:هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر الوكالة