مقال رأي

الصراع ” الكاتم ” بين الناتو وموسكو على سوريا.. فأين موقع تركيا في دائرة تحدّي الحيتان؟

تاريخ العلاقات ما بين موسكو والناتو

يعدّ حلف شمال الأطلسي أقوى تحالف دفاعي إقليمي في العالم على الإطلاق، تشكل في عام 1949 من 12 دولة، وانضمت تركيا واليونان إليه عام 1952، تبعتهما ألمانيا الغربية (جمهورية ألمانيا الاتحادية) في عام 1955، ولكن الولايات المتحدة كانت دائماً هي القوة المهيمنة عسكرياً على الحلف.

يهدف الحلف إلى التصدي لما كان يوصف “بالخطر الشيوعي” أبان الحقبة التي كان (الاتحاد السوفييتي) يسعى فيها لنشر نفوذه في القارة الأوروبية والشرق الأوسط.

كان الهدف الأساسي من تشكيله هو “الحفاظ على حريات والإرث المشترك وحضارات” الدول الأعضاء فيه عن طريق تعزيز “استقرار وسلامة منطقة شمال المحيط الأطلسي”، وبموجب ميثاق الحلف، تتفق الدول الأعضاء على أن أي هجوم على أي منها يعد هجوماً على الجميع وأنها ستقف معاً لنجدة أي بلد عضو يتعرض لعدوان خارجي.

وبعد انفكاك الاتحاد السوفيتي 1991، أنهار حلف وارسو ، وأصبحت روسيا الإرث الرئيسي لها (لاتحاد السوفيتي) داخلةً معركة الدفاع عن وجودها، محاولةً التمدد نحو الشرق الأوسط وصولاً إلى 2014 لنقل الكرة إلى الملعب السوري، لتتدخل مع الناتو في صراع جديد لا نهاية له وضمن قواعد جديدة .

الصراع " الكاتم " بين الناتو وموسكو على سوريا.. فأين موقع تركيا في دائرة تحدّي الحيتان؟
الصراع ” الكاتم ” بين الناتو وموسكو على سوريا.. فأين موقع تركيا في دائرة تحدّي الحيتان؟

موسكو وتاريخ لعبتها بالقضية الكوردية

تاريخ الكورد مع الروس مليئ بالانتكاسات وعمليات التخاذل، فمع وصول الزعيم الكوردي مصطفى البارزاني إلى الاتحاد السوفيتي 1947 حتى 1958 في رحلةٍ قِيل عنها “أسطورية”، بدءاً من إقليم كوردستان العراق انتهاءً بأذربيجان السوفييتية، فأولى عمليات التخاذل الروسي حصلت مع الكورد في عام 1946 عندما أعلنت عن جمهورية مهاباد 1946 بايران، لكن سرعان ما تخلت عنها موسكو وجعلتها لقمة سائغة أمام بطش الجيش الإيراني، الذي أسقط جمهورية مهاباد، واعتقل وأعدم قيادتاها وفي مقدمتهم القاضي محمد.

بينما التخاذل الآخر، حصل عندما وصل زعيم حزب العمال الكوردستاني عبدالله أوجلان من دمشق إلى موسكو في 1998، عن طريق استخدام وثائق سفر مزورة، ومن ثم تقدم بطلب إلى السلطات الروسية لمنحه حق اللجوء السياسي، وكان أوجلان يعتمد حينها على تلاقي اهتمام روسيا بمنطقة بحر قزوين والشرق الأوسط، غير أن رئيس الوزراء حينها، يفغيني بريماكوف، رفض رفضًا حاسمًا منحه حق اللجوء السياسي، وذلك بالرغم من تصويت 299 نائبًا في مجلس الدوما، من أصل 300 نائب في جلسة البرلمان التي انعقدت بتاريخ الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1998، لصالح أوجلان، ولم يسجَّل حينها سوى امتناع نائب واحد عن التصويت، ومع ذلك فقد اعتبرت حكومة بريماكوف أن تدهور العلاقات الروسية-التركية قد تكون له تداعيات سلبية بالنسبة لموسكو أكثر من التداعيات التي قد تنجم عن رفضها التعاون الوثيق مع الكورد، بالإضافة إلى ذلك، فقد أصبح قرار موسكو في قضية أوجلان جزءًا من الاتفاق مع أنقرة، التي تعهدت بموجب اتفاق معها بوقف دعمها للانفصاليين الشيشان في شمال القوقاز مقابل طرد أوجلانومن روسيا وهذا ما حصل بالضبط، ويعتبر هذا ثاني تخاذل للروس مع الكورد في تركيا بعد ثورة كولان في العراق، وجمهورية مهاباد في إيران، أما مع الكورد السوريين في الوقت الحالي فجميع المعطيات تقول إن موسكو تتفاوض على مستقبلهم مع أنقرة وواشنطن لبيعهم في المزاد العلني دون رادع أخلاقي أو إنساني.

عودة موسكو إلى سوريا والمواجهة المحتملة مع الناتو

بدأت الطائرات الحربية الروسية في 30 سبتمبر/أيلول 2015 أولى غاراتها على المواقع المعارضة السورية المسلحة التي كانت تقرع أبواب القصر الجمهوري من دمشق، وتقارير صحفية واستخباراتية أكَّدت آنذاك أن أغلب هذه الغارات استهدفت مواقع المعارضة السورية المسلحة، وليس تنظيم داعش كما كانت تدّعي موسكو، ودفعت بالمتطوعين الروس إلى المشاركة في هذه الحرب الدئرة منذ 2012 للدفاع عن مصالحها الإستراتيجية في المنطقة، والتحضير لقرع أبواب الناتو من الجنوب والشرق.

يقول المراقبون إن هدف موسكو المباشر من تدخلها في سوريا هو ضرب المعارضة السورية التي تدعمها الناتو بشكل غير مباشر عن طريق أنقرة، بينما الهدف البعيد لموسكو هو التقرب من الحدود التركية العضو في الناتو ومحاولة التجسس على قاعدة (إنجرليك ) الجوية التي تشرف عليها الناتو والتي تحمل في داخلها العشرات من الرؤوس النووية التي كانت تشكل نقطة الدفاع المشتركة عن الناتو في مواجهة الأطماع السوفيتية في بحر القزوين والشرق الأوسط التي كانت تحاول غزو العالم لنشر الشيوعية فيها.

أنقرة تحمي أوروبا من الجنوب و الشرق

يعترف الأمين العام لحلف شمال الأطلسي “ناتو” ينس ستولتنبرغ في تصريحات صحفية نُشرت مؤخراً أن “تركيا التي لا تتمتع بعضوية الاتحاد الأوروبي، تلعب دوراً مهماً للغاية في الدفاع عن الناتو في حدوده الجنوبية الشرقية – لا يستطيع الاتحاد الأوروبي وحده الدفاع عن أوروبا”، لافتاً إلى أن الناتو يواجه العديد من التحديات مثل روسيا وصعود الصين والهجمات الإلكترونية والإرهاب الدولي.

يبدو أن الناتو وأخيراً بدأ يكشف عن نواياه بأن تواجد القوات الروسية في سوريا ومحاولة تمركزها قرب الحدود مع تركيا هو تهديد واضح للناتو وخاصة تقربها من قاعدة” إنجرليك ” الجوية ( النووية) التي تحتوي على المئات الجنود من الأمريكان والدول الاتحاد الأوروبي، وهذا لا ينفي وجود “قلق” أوربي- أمريكي من تسلم تركيا أول شحنة من منظومة صواريخ روسية(S400)، فربما تحاول موسكو من خلال هذه التكتيكات الرد على تمدد الناتو داخل جمهوريات السوفيت سابقاً، وخاصة التشيك وبولندا والمجر التي انضمت إلى الحلف في عام 1999، مما دفع حدودها إلى الشرق بمسافة 400 كيلومتر، وأصبح الناتو يقرع أبواب موسكو انطلاقاً من هذه الجمهوريات آنفة الذكر.

الخلاصة :
تاريخ الصراع بين موسكو وواشنطن حافل بالمواجهات والأعمال الانتقامية وخاصة في أفغانستان، فالناتو بقيادة واشنطن لن تسمح لموسكو بتمركز وتثبيت قواعدها قرب الحدود مع تركيا، فالصراع القائم في الشمال وشرق سوريا تحت بند حماية المدنيين وإعادة الأمن والاستقرار ما هو إلا مظلة لتمرير مشاريعهم البعيدة المدى في المنطقة، فموسكو لا يهمها المدنيين وحمايتهم فلها تاريخ حافل بتدمير المدن السورية وتهجير أهلها وسكانها، بينما واشنطن هي الأخرى تستخدم قسد لردع تمدد إيران ومن ثم الروس في سوريا ومن ثم في شرق الفرات، وبناءً على ما ذكر، فالعلاقات بين واشنطن وأنقرة تاريخية وإستراتيجية وهذا لا جدال عليها لا تتاثر بدعم منظمة ما هنا وهناك، ويمكن اعتبار الخلافات القائمة حول منطقة شرق الفرات فيما بينهما مجرد ألاعيب وقتية ومرحلية لا تنعكس سلباً على المستقبل العلاقات المرسومة وفق إستراتيجية دقيقة وشاملة، فمن هنا واشنطن لازالت تتعامل مع موسكو في سوريا ضمن الخطة (ألف ) وهي احتواءها قدر الإمكان، ولأن الانتقال إلى الخطة ( ب) يعني تكرار تجربة أفغانستان التي أطاحت بالاتحاد السوفيتي من خلال دعم التمرد (الإسلامي) المسلح هناك ، وبناءً عليه فواشنطن بحاجة ماسة إلى أنقرة وموقعها الإستراتيجي في الشرق الأوسط لمواجهة حيتان ( الكرملين )، وبالإضافة إلى حماية حدود أوروبا من الجنوب والشرق التي تهددها الهجرة المليونية بعد افتعال الصراعات المذهبية والقومية في المنطقة، وكما أن أنقرة تشكل الرادع القوي لتمدد النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط وهذا يخدم المصالح الإسرائيلية البعيد المدى، وبحسب الصحافة الغربية التي تعتبر “تل أبيب” عاصمة لدولة صغيرة(جغرافياً) لا تتحمل فتح مزيداً من المواجهات العسكرية في المنطقة رغم محاولتها فتح علاقات التطبيع مع بعض البلدان العربية التي لا تفي بالغرض منها، بالتالي لا يمكن للناتو التخلي عن أنقرة كونها تشكل نقطة الدفاع المشتركة عن الناتو، ومهما كانت حجم الاختلافات فيما بينهم في سوريا وربما في العراق وحتى في ليبيا وقوقاز فيمكن اعتبار ذلك مجرد تكتيك وقتي و مرحلي بين الناتو وأنقرة، فكل منهما يحاول تقوية أوراقه في المنطقة، لكن استراتيجياً فهم متفقين من الألف إلى الياء.

بالمحصلة يتعين على القوى الكوردية الاستفادة من تجارب التاريخ ( المرّة)، وتحديد بوصلتها بشكل جيد وفق ما يتطلبه الوضع الكوردي السوري الذي لا يتحمل تخاذل دولي آخر كما حصل في مهاباد 1946، وبالإضافة إلى تخلي واشنطن عن (عفرين ورأس العين ) لصالح أنقرة، وكان ذلك درساً قاسياً لن ينسى، ولهذا السبب يمكن القول إن التعامل مع الوقائع في شرق الفرات يجب التعاطي معها ضمن الممكن وعدم الهرولة والانجرار خلف شعارات يمكن أن يودي بالكورد مرّة أخرى إلى الهاوية، وبحسب خبراء السياسة في الغرب أن مشكلة الكورد لا يتعلمون من أخطائهم التاريخية وبالتالي يسقطون في نفس الحفرة .

علي تمي: كاتب وسياسي

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى