شكّلت العقوبات الدولية، ولا سيما الأمريكية بموجب "قانون قيصر"، أحد أبرز أدوات الضغط على الاقتصاد السوري خلال سنوات، إذ كبّلت حركة التجارة وأربكت التحويلات وأعاقت أي تعامل خارجي، ومع إعلان رفع هذه العقوبات مؤخراً وبشكل نهائي غير مشروط، دخلت سوريا مرحلة جديدة تحمل آمالاً كبيرة بعودة النشاط الاقتصادي، لكنها في الوقت نفسه تطرح أسئلة جوهرية حول قدرة البنية الداخلية على استثمار هذه الفرصة وتحويلها إلى نمو مستدام، وهل سيكون أثر رفع العقوبات سريعاً وتتدفق الاستثمارات والأموال أم أن هناك عوامل أخرى لا تزال تعيق التحسّن الاقتصادي.
وتتسلل هذه الأسئلة بين ثنايا الأخبار والمعلومات المتداولة عن وجود "جهات محددة" تدير المشهد الاقتصادي منذ التحرير حتى اليوم، وسط مخاوف من تكرار تجربة "نظام الأسد وعائلات الحكم" التي كانت تشرف على البلاد وكأنها "مزرعتها" الخاصة، فما هو المطلوب اليوم من الحكومة السورية لإدارة المرحلة بنجاح واستثمار "اللحظة التاريخية"؟
التأثير القريب على الاقتصاد السوري
تشير تقارير اقتصادية إلى أن سعر صرف الليرة السورية تحسّن خلال الأيام الأولى بعد رفع العقوبات، حيث يتراوح الدولار في حدود 11 ألف ليرة حتى 11500، مدفوعاً بتوقعات بزيادة تدفقات العملة الأجنبية عبر الحوالات وفتح قنوات تجارية جديدة، كما توقعت وزارة الاقتصاد أن تظهر آثار ملموسة في الأسواق خلال أشهر قليلة، خصوصاً في تكاليف الشحن والتأمين التي كانت ترتفع بنسبة تصل إلى 30% بسبب المخاطر القانونية.
يقول الخبير الاقتصادي ملهم الجزماتي، خلال حديث لوكالة ستيب نيوز: "إن إزالة العقوبات أدخلت الاقتصاد السوري مرحلة جديدة شكلياً، لكنها ما زالت بعيدة عن أي تحول جذري بالمعنى الاقتصادي العميق".
ويوضح أن الأثر المباشر يتمثل في "تخفيف جزء من الضغط القانوني الذي كان يقيّد الحركة الاقتصادية ويجعل أي تعامل خارجي محفوفاً بالمخاطر"، مشيراً إلى أن هذا التخفيف يفتح المجال أمام عودة محدودة للتعاقدات وتحسّن نسبي في الخدمات اللوجستية والتجارية.
وفي هذه المرحلة يظهر أن الأثر النفسي هو العامل الأبرز في المدى القريب، إذ يعيد الثقة للأسواق ويشجع التجار والمستثمرين على التفكير بالعودة، لكن هذا الأثر يبقى هشاً إذا لم يُترجم إلى تدفقات مالية حقيقية، خاصة أن البنية الإنتاجية ما زالت مدمرة بنسبة كبيرة في الصناعة والزراعة.
العملة والاستثمارات: بين التوقعات والواقع
تقديرات خبراء دوليين تشير إلى إمكانية تدفق استثمارات تتراوح بين 3 و5 مليارات دولار في قطاعات الطاقة والزراعة والصناعة خلال المرحلة المقبلة، لكن هذه التدفقات مشروطة بوجود خطة اقتصادية متكاملة وتشريعات جديدة للاستثمار والضرائب ومكافحة الفساد.
يقول الجزماتي: "من المتوقع أن يكون أي تحسن سريع في سعر الصرف أو حركة السوق ناتجاً بالدرجة الأولى عن العامل النفسي والتوقعات، لا عن تدفقات مالية حقيقية، وإزالة العقوبات تخفف المخاطر القانونية، لكنها لا تعيد تلقائياً المصارف المراسلة، ولا تفتح قنوات التمويل، ولا تضمن تحويل الأرباح أو حماية رأس المال".
ويوضح أن الليرة السورية ستلتقط إشارات التفاؤل لكنها لن تصمد بلا تدفقات مالية حقيقية، أما الاستثمارات، فمسارها الأقرب سيكون انتقائياً ومركّزاً على القطاعات سريعة الأثر مثل الخدمات اللوجستية وسلاسل الغذاء والطاقة الخفيفة، بينما المشاريع الثقيلة ستظل تنتظر وضوحاً قانونياً ومصرفياً أكبر.
ويلفت الخبير إلى أن جوهر المشكلة، هو الفجوة المصرفية والتمويلية، واستمرار الحذر الشديد لدى المؤسسات الدولية التي تعمل بمنطق “تجنب المخاطر” أكثر مما تعمل بمنطق اقتناص الفرص.
المطلوب من الحكومة: من نافذة إلى مسار
بعد رفع العقوبات، لم يعد بالإمكان تعليق الإخفاقات على القيود الدولية وحدها، فالمطلوب داخلياً هو الانتقال إلى "التنظيم" من خلال إطار نقدي واضح، ومنظومة امتثال مصرفية قابلة للتدقيق، وخارطة أولويات قطاعية تُدار بأهداف قابلة للقياس.
يقول الجزماتي: "المطلوب ليس فقط الانفتاح، بل إدارة هذا الانفتاح بسياسة نقدية شفافة، تحدد بوضوح كيف يُدار سعر الصرف، وما هي أدوات التدخل، وما هو الهدف النهائي، كما أن إعادة وصل القطاع المصرفي السوري بالمنظومة المالية العالمية تصبح أولوية قصوى، لأن أي استثمار بلا قدرة على التحويل والتمويل سيبقى حبراً على ورق".
ويوضح أن النجاح لا يقاس بكثرة الإعلانات، بل بوضوح القواعد وقلة المفاجآت، فالسوق يحتاج إلى يقين يسمح بتحديد المخاطر والدخول التدريجي، وهو ما يتطلب مؤشرات أداء معلنة وجداول زمنية بإنجازات دورية.

الحوكمة والشفافية: كسر الحلقة قبل تدفق الأموال
المال يكره الغموض أكثر من العقوبات، فالبيئات التي تعاني من تداخل مصالح وغياب إفصاح، تتحول إلى ساحات مرتفعة المخاطر، حيث يُعاد تدوير العوائد في دوائر ضيقة وتفشل المشاريع في الوصول إلى أثر تنموي واسع.
يقول الجزماتي: "التجربة السابقة أثبتت أن المشكلة في سوريا لم تكن غياب الأموال فقط، بل وجود شبكة من الجهات المتحكمة التي كانت تعيق أي مسار تنموي حقيقي وتعيد تدوير المكاسب ضمن دائرة ضيقة. إذا لم تُكسر هذه الحلقة، فإن إزالة العقوبات قد تتحول من فرصة إنقاذ إلى فرصة لإعادة إنتاج النموذج نفسه بأدوات جديدة".
ويؤكد الخبير أنه لابد من بناء نموذج حوكمة يسبق الاستثمار ويؤطّره، عبر سجل المستفيد الحقيقي، ونشر العقود الكبرى، وتدقيق مستقل بنتائج معلنة، وقواعد صارمة لتضارب المصالح، فهذه الأنظمة لا تُرضي المستثمرين فحسب؛ إنها تمنح السوق المحلية آلية لحماية المنافسة ومنع تركّز العقود في أيدٍ قليلة.
ويشدد على أن الضمانة الوحيدة تكمن في الشفافية المؤسسية، لا في النوايا، فأي استثمار يجب أن يكون قابلاً للتتبع، من حيث الأطراف المالكة، وشروط العقود، والإعفاءات، والعوائد المتوقعة، مع إخضاع المشاريع الكبرى لتدقيق مستقل ونشر نتائجه للرأي العام.
رفع العقوبات لن يبني الاقتصاد
يتضح وفق التحليلات ورأي "الجزماتي" أن رفع "قيصر" حرّك هواءً راكداً، لكنه لا يضخّ الأكسجين وحده، فالاقتصاد السوري يقف اليوم أمام خيارين واضحين، إما تحويل النافذة القانونية إلى مسار إصلاحي طويل النفس من خلال شفافية، وامتثال، أولويات ذكية، أو إدارة موجة تفاؤل قصيرة الأمد تعود بعدها الاختناقات نفسها بأسماء جديدة.
الجزماتي وضع الإصبع على الجرح، فالخارج كان عائقاً، لكن الداخل هو الحل، واللحظة تاريخية بدأت لكن التاريخ لا يُكتب بالنوايا، بل بالمؤسسات والقواعد والشفافية الواجبة لبناء اقتصاد دولة مستدام.
اقرأ أيضاً|| الليرة السورية تهوي 33% خلال أشهر.. هل يكفي حذف الأصفار للإنقاذ؟
تابع أهم الأخبار والمقالات عبر قناة وكالة ستيب نيوز في واتساب