مسابقة خطوة 2014

ثمانمائة ألف سجين… سِتونَ زنزانةً ومئةُ سجَّان

اسم المتسابق  : خالد العمري

 

ملاحظة : المقالة المشاركة بالمسابقة لا تمثل رأي الوكالة بل تعبر عن رأي المتسابق فقط دون ان تتبنى الوكالة اية افكار او اراءا شخصية مذكورة ضمن المقالة

 

على رقعة ٍ من رُقع الأرض المنسيَّةِ وعلى امتداد أربعمائة كيلو متر مربع على خاصرة دمشق الشرقية , بعيداً عن السلام والأمان … عن النور والحياة, وفي غفلةٍ من ضمير الإنسان وتجبُّرٍٍ من عروش الطغيان تبدأُ القصة.

قصةُُ الألم والمعاناة, ألمِ الجوع ومعاناة التهجير والتشريد,قصةُ القهر والرعب,
قهرُ الفقر ورعب الحديد والنار.
إنها الغوطة الشرقية تحكي قصة ثمانمائة ألفٍ من أبنائها من بني البشرأطفالٌ ورجالْ ,شيوخٌ ونساء دون أن تنسى الحجر والشجر .
تحكي قصة الموت البطيء … قصَّة الحصار وظلم البشر.

 

قبل تحرير معمل التاميكو للأدوية في بلدة المليحة في تَشرينَ الأول من عام ألفين وثلاثة عشر بأسابيع وبعد مجزرة الكيماوي المروعة بأيام صدر الحكم على أهالي ستين مدينةً وبلدةً على امتداد الغوطة الشرقية بالسجن مع الأعمال الشاقة لمدةٍ مفتوحة , أُغلق المنفذان الوحيدان للغوطة الشرقية وبدأت البضائع بالنفاد من السوق لتباشر الأسعار بالارتفاع بشكل تدريجي حتى بلغ الأمر ذروته في نهاية العام نفسه مع بداية فصل الشتاء , فلا وقود ولا طحين ولا محاصيل زراعية تُؤازر الناس في مُصابهم , السكَّر بأربعة آلاف ليرة والأرز والبرغل والعدس بألفي ليرة إن وجدت .

في ظلِّ هذا النقص الحاد في المواد الغذائية والطحين بدأت تنتشر بدائل في السُّوق تخفي ورائها الكثيرَ من الأمراض والأضرارِ وحالاتِ التسمُّم كمادة السكرين وطحين الصويا والتمر العلفي وقمر الدين , وبات من يحظى بقليلٍ من طحين الشعير من المحظوظين حيث وصل سعر الكيلو الواحد منه لألف ليرة في حال توفُّره .

عشراتٌ من الأطفال والرجال والنساء فارقوا الحياة برداً وجوعاً , بعض الأطفال كان يُغمى عليهم وهم على مقاعد الدراسة وآخرون يسقطون أرضاً في طريق الذهاب أو العودة , تعدَّى الأمرُ ذلك ليصل ببعض الأهالي لدرجة الخروج ليلاً في ليالي الصقيع والظلام ليجمعوا بعض أوراق الفجل والخبَّيزة والسبانخ ويعودوا بها لأُسرهم ليَبقَوا على قيد الحياة , وببعضهم الآخر للقتلِ والجريمة بغية الحصولِ على بعض المال أو الطعام كما حصل في عربين حيث أقبل ثلاثة أشخاصٍ على قتلِ سيِّدةٍ مسنَّةٍ تربطها بهم صلةُ قُربى بغية الاستيلاءِ على مالها .

كلُّ ذلك كان تربةً خِصبةً لانتشار السرقات والتسول بشكلٍ مخيف بين الأطفال الَّذين كان من المستحيل على عقولهم الصغيرة ومخيلتهم البريئة فهم واستيعاب ما يدور حولهم من مآسي وآلام .

واليوم ومع بدايةِ شتاءٍ جديد يُنذر بتكرار الكارثة مرةً أخرى , لكن في هذه المرة المأساةُ أكبر والمشكلةُ أخطرُ وأعمق .

أطفالٌ بعمرِ الورود دفعهم الواقع المعيشيُّ الصعب أن يسلكوا طرقاً في غايةِ الخطورة مُعرَّضةٍ للقصف والقنص في كلِّ دقيقةٍ وفي كلِّ متر منها ليصلوا لبيتهم المدمَّر ويجمعوا ما يستطيعون جمعهُ من أخشابٍ وبقايا أثاثٍ قد قُصفَ ليعود كلُّ واحدٍ منهم وقد حمل على كتفه الصغير كيساً من الحطب قد تجاوز طولَه في بعض الأحيان أملاً منه في دفعِ بردِ هذا اليوم وقسوتهِ عن نفسه وعائلته .

لم تنتهي المهمِّةُ بعد فثمَّةَ رحلةٌٌ أخرى بانتظار الصغير فأوعيةُ المياه فارغة والأب إن لم يكن شهيداً أو معتقلاً أو عاجزاً بسبب إصابةٍ قد أصابته فإنه قد خرج باكراً يمضي في رحلة البحث عن لقمة العيش , هنا لا يملكُ الصغير إلاَّ أن يقف في طابورٍ طويل أمام أحد الآبار مصارعاً البرد والتعب ليقوم بتعبئة المياه وتنقُلَها أنامله الصغيرة إلى المنزل .

الآن وبعد الانتهاء من تلك الأعمالِ المضنية الشاقَّة يقف الطفل أمام خَيارينِ اثنين أحلاهما مُرّ, فإمَّا الذهابُ إلى المدرسة والجلوسُ على مقاعدِ الدِّراسة في صفٍّ قد عشَّشَ البرد فيه و الهواء يعصفُ به

من كلِّ جانب ناهيك عن احتمال استهداف النظام للمدرسة في أيِّ لحظة , وممَّا يزيد في واقع التعليم صعوبةً وسوءً عدمُ تمكُّنِ هذا الطفل وأهله من تأمين متطلباتِ التعليم من قرطاسيةٍ وغيرها من الحاجيات وكذلك النقص الكبير في الكوادر التعليمية فتارةً يغيبُ المعلِّمُ عن الصفِّ وتارةً أخرى يضطرُّ مدرّسُ التاريخ لتدريسِ الرياضيات أو مدرِّسُ العلوم لتدريس اللغة العربية .

هنا وجد كثيرٌ من الأطفال أنفسهم مجبرين لاختيار الخيار الثاني وهو العمل لمساندة الأسرة , وهذا ما يفسِّرُ ارتفاعَ نسبةِ عمالةِ الأطفال في الغوطة الشرقية بشكلٍ مخيف , والأنكى من ذلك أنَّ الأعمال التي يقومون بها أعمالٌ صعبة وخطرة على من في عمرِهم فمنهم من يعمل في معملٍ لتقطير البلاستيك واستخراج البنزين والمازوت وهذا العمل في غاية الخطورة والضرر ومنهم من يخبز الطحين للنّاس من الصباح حتَّى المساء وآخرون يبيعون الدُّخان وبعض المواد الأخرى في الطرقات .

قسمٌ آخرُ من الأطفال رفض هذين الخيارين الصعبين وتمرَّدَ على هذا الواقعِ الأليم وآثر التسول في شوارع الغوطة ليحظى بلقمةِ عيشه بعيداً عن التعب والعناء .

إنَّ ممَّا يضفي على المأساةِ لوناً آخر من ألوان العذاب ويفتحُ صفحةً جديدةً من صفحات المعاناةِ لدى أسرةٍ من الأُسرِ أن يقع أحد أفرادها فريسةً لقذيفةٍ غادرة أو غارةٍ مفاجئة أو رصاصة قنَّاص , أو أن يُصابَ بمرضٍ من الأمراضِ التي تجتاحُ الغوطة باستمرار بسبب سوء التغذية وتلوُّثِ الماءِ والهواء وعدمُ توفُّرِ الأدويةِ واللُّقاحات اللازمة , ففي ظلِّ هذا الواقعِ الطِّبيِّ المأساويّ يقفُ أقرباءُ المريضِ أو المصاب وأصدقاؤهُ عاجزين عن تقديمِ أيِّ عونٍ أو مساعدةٍ لمريضهم فكلُّ محاولاتهم بالبحثِ عن الدواءِ المفقودِ أو الطبيبِ المختصِّ أو الجهاز الطبيِّ اللّازمِ للعملِ الجراحي باءت بالفشل ولم يعد بمقدورهم إلّا تسليمُ أمرهم لله تعالى وانتظارُ قدرهم بقلوبٍ يعتصرها الحزنُ والأسى .

مع انتهاءِ عامِ ألفين وأربعةَ عشر يكونُ أهلُ الغوطةِ الشرقيَّةِ قد أمضوا مدّةً تزيد عن الستَّةَ عشرَ شهراً من مدَّةِ حكمهم المفتوحة لم يحسبوها أياماً وأشهراً بل ساعاتٍ ودقائقَ ….. ساعةً بساعة ودقيقةً بدقيقة , نعم إنها على حساباتهم إحدى عشرَ ألفَ ساعة أو ستمائة وست وستون ألفَ دقيقة , نعم إنَّ للأرقامِ هنا خُصوصيةً معينة , فالرقم ألفان وخمسمائة في الغوطة الشرقية يعني ألفان وخمسمائة إنسان تمَّ بترُ ساقهِ أو يدهِ في ظلِّ الحصار لضعفٍ في الإمكانيات ,  أمَّا الرقم تسعة آلاف فهو لشهداء الحصار , وأربعٌ وتسعون للمساجد المدمَّرة , ومئة وخمس للمدارس المدمَّرة , وواحد وعشرون للأفران المدمَّرة وغيرها من مئاتِ الإحصائياتِ الأخرى التي تنتظرُ العدلَ والإنصاف أوّلاً من الله , ثمَّ من زعيمٍ أو أكثر من بينِ مئةٍ من زعماء العالم الغارقين في سباتهم العميق علَّهم يستيقظون من هذا السبات ويخرجون عن صمتهم المخزي ويُغلقوا هذا السجن الكبير, فكم من سجَّانٍ رقَّ قلبهُ وانقلبتِ القسوةُ رحمةً وساعد المسجونين المظلومين .

 

خالد العمري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى