كرّست قمة منظمة شنغهاي للتعاون في تيانجين الصينية مسار الانتقال نحو تعددية قطبية عملية، مزوَّدة هذه المرة بحزمة وثائق مؤسِّسة وخارطة طريق قطاعية، إلى جانب رسائل سياسية مباشرة من القادة المشاركين حول الاقتصاد والأمن والطاقة، وفق ما كشف الخبير الروسي دينيس كوركودينوف، رئيس المركز الدولي للتحليل السياسي والتنبؤات، خلال حديث لوكالة ستيب نيوز.
وثائق القمة: إعلان، إستراتيجية، وبرامج تنفيذية
أقرت القمة إعلان تيانجين، واستراتيجية تطوير منظمة شنغهاي حتى 2035، إلى جانب خارطة طريق لتنفيذ استراتيجية التعاون الطاقي حتى 2030، وبرنامج التعاون في مكافحة الأيديولوجيا المتطرفة 2026–2030.
كذلك مُنحت لاوس صفة "شريك حوار"، كما تقرّر حصول المنظمة على صفة مراقب في رابطة الدول المستقلة (CIS)، مع اعتماد قرارات تنظيمية إضافية (منها إعلان مدينة تشولبون-آتا عاصمة سياحية وثقافية للمنظمة 2025–2026).
يقول كوركودينوف: " قمة منظمة شنغهاي للتعاون في تيانجين كانت حدثاً مفصلياً، عكس بوضوح تعزيز بنية العلاقات الدولية متعددة الأقطاب. الأفكار الرئيسية للاجتماع تجسدت في الوثائق الموقعة، بما فيها "إعلان تيانجين" و"استراتيجية تطوير المنظمة حتى عام 2035". هذه الوثائق تؤكد التزام المشاركين بتعميق التعاون في مجالات الأمن والاقتصاد والتفاعل الإنساني".
ويؤكد أنه من أبرز النتائج اعتماد برنامج لمكافحة الأيديولوجيا المتطرفة للفترة 2026–2030، ما يعكس التصميم المشترك على مواجهة تهديدات الاستقرار الإقليمي. كما حظي التعاون في مجال الطاقة باهتمام خاص من خلال خارطة طريق لتنفيذ الاستراتيجية حتى 2030، تهدف لتنسيق السياسات في هذا القطاع الحيوي.
إضافة إلى ذلك تؤطّر هذه الحزمة قاعدة العمل المؤسسي المقبل من خلال تثبيت مبادئ المساواة السيادية وعدم التدخل واحترام الاستقلال، وربطها بأدوات تنفيذية في الطاقة والأمن والتنسيق المالي، كما شدّد كوركودينوف على أن مبادئ ميثاق الأمم المتحدة تشكّل "أساس بناء نظام عالمي عادل متعدد الأقطاب".
الطاقة والتسويات: من الرؤية إلى الأدوات
على خطّ الطاقة، تبنّت القمة بياناً للتنمية المستدامة وأقرّت خارطة طريق لتنفيذ استراتيجية التعاون الطاقي حتى 2030، وهي مسارات جرى التحضير لها في اجتماعات وزراء الطاقة قبل القمة.
الأهمية هنا ليست في العناوين فحسب، بل في أنها تصنع قنواتٍ عمليةٍ للمواءمة بين سياسات الطاقة لدى الدول الأعضاء، مع إشارة واضحة إلى التموضع ضمن نظام تجاري متعدد الأطراف.
كوركودينوف يقول: "حظي التعاون في مجال الطاقة باهتمام خاص عبر خارطة طريق حتى 2030 لتنسيق السياسات في هذا القطاع الحيوي".
ويضيف: " تشكيل نظام عالمي جديد عملية تطورية وليست حدثاً لحظياً. روسيا والصين تلعبان دوراً محورياً في هذه العملية، لكننا نتحدث عن تعزيز تدريجي للتعددية القطبية، حيث لا تهيمن دولة أو تكتل بعينه على الآخرين".
ويتابع: "القمة أثبتت أن عدداً متزايداً من الدول يسعى لتوزيع عادل للنفوذ ورفض النماذج القديمة القائمة على "المركزية الأوروبية" والهيمنة. ومع ذلك، يتطلب الأمر خطوات إضافية، منها تعميق التكامل الاقتصادي، وتطوير بنية تحتية مستقلة للمدفوعات والتسويات، وتعزيز آليات الأمن المشترك".
وبالوقت عينه يشير الخبير إلى أن تحقيق إمكانات النظام متعدد الأقطاب يتطلب إشراك لاعبين آخرين، بما في ذلك الهند، ودول البريكس، والجنوب العالمي.
الاقتصاد والتمويل: مقترحات بنية تحتية مالية مشتركة
اقتصادياً، قدّم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال القمة مقترحات لافتة: إصدار سندات مشتركة لدول المنظمة، وإنشاء بنية تحتية مشتركة للمدفوعات والتسويات والإيداع، وبنك للمشروعات الاستثمارية المشتركة—وهي أفكار تستهدف تعزيز المبادلات وتقليل المخاطر الناجمة عن العقوبات والارتهان للأدوات المالية الغربية. كما كرّر الإشارة إلى نمو مجمل اقتصادات دول المنظمة بأكثر من 5% في 2024.
كوركودينوف يقول: "ناقشت القمة مبادرات لإصدار سندات مشتركة بين الدول الأعضاء وإنشاء بنك للمشاريع الاستثمارية… وهي خطوات ستتطلب وقتاً للتنفيذ".
ويشدد على أن منظمة شنغهاي باتت قاطرة قوية، لكن ما زال هناك الكثير من العمل لتنسيق المواقف وبناء قاعدة مؤسساتية.
وهنا تتقاطع قراءة كوركودينوف مع واقع المناقشات، حيث يجري الحديث عن التحوّل المالي بعيداً عن "الدولرة" والاعتماد على المنظومات الغربية بات عنواناً تنفيذياً، لا شعاراً عاماً.
رسائل القادة من القمة
سياسياً، حملت كلمات القادة رسائل واضحة، حيث شدّد الرئيس الصيني شي جين بينغ على ضرورة مواجهة "عقليات الحرب الباردة" داعياً إلى تعاون إقليمي أعمق؛ فيما دعا ناريندرا مودي رئيس الوزراء الهندي إلى موقف موحّد ضد الإرهاب ورفض المعايير المزدوجة في مكافحة تمويله؛ وهاجم بوتين السياسات الغربية محمّلاً "الناتو" مسؤولية اندلاع النزاع الأوكراني.
إلى جانب ذلك، نقلت تقارير صحفية أن شي استخدم استعارة "التنين والفيل" لحثّ الصين والهند على "العمل معاً"، في إشارة رمزية مباشرة إلى إمكان طيّ صفحة التوتر الحدودي وتوسيع التعاون في الأطر المتعددة.
يقول كوركودينوف: "الهند تحافظ على استقلالية استراتيجية… تحتفظ بعلاقات وثيقة مع الغرب، لكنها تعمّق تعاونها مع روسيا والصين… وروسيا مستعدة للوساطة البنّاءة".
ويشير إلى أن موقف الهند لا يزال معقداً ومتعدد الأبعاد، ويعكس رغبتها في الحفاظ على استقلالية استراتيجية. تدهور علاقاتها مع واشنطن، خاصة بعد فرض رسوم إضافية على السلع الهندية بسبب شراء النفط الروسي، دفع نيودلهي لإعادة النظر في أولوياتها السياسية الخارجية.
وكان بيان وزارة الخارجية الهندية عن مشاركة مودي في القمة حدّد محاور النقاش، من استراتيجية التطوير، إلى إصلاح حوكمة النظام الدولي، ومكافحة الإرهاب، والسلم والأمن، والتعاونين الاقتصادي–المالي، والتنمية المستدامة—وهي ترجمة رسمية للبراغماتية التي تحدث عنها كوركودينوف، والتي تسعى للحفاظ من خلالها نيودلهي على "الاستقلالية الاستراتيجية" مع الانخراط في ترتيبات متعددة الأطراف.
وهذه المقاربة توضّح لماذا يصعب اختزال الهند في "تحالف شرقي" صرف، حتى مع تدهور بعض ملفاتها مع واشنطن. فالميل إلى التوازن بين الغرب والشرق، مع الإفادة من مساحات منظمة شنغهاي والبريكس، هو العنوان المرحلي الأوضح.
الولايات المتحدة: احتواء مستمرّ… وجدوى متراجعة
تؤكّد خطابات بوتين اليوم المسار الذي وصفه كوركودينوف: استمرار سياسة الاحتواء الأميركية عبر الرسوم والعقوبات، ومحاولات تفكيك المؤسسات الناشئة، مقابل تسارع انتقال دول "شنغهاي" إلى العملات الوطنية وتطوير قنوات دفع وتسوية بديلة.
وإذا كانت مقترحات السندات والبنية المالية المشتركة قد طُرحت الآن على الطاولة، فهذا يعني انتقال النقاش من "النية" إلى تصميم الأدوات.
يقول كوركودينوف: "التصعيد الأميركي محتمل في الطاقة والتكنولوجيا… لكنه سيُواجه مقاومة منسَّقة ومتنامية، بما يسرّع تشكّل نماذج اقتصادية بديلة وأكثر عدلاً".
ويضيف: " نتوقع أن تلجأ واشنطن إلى جميع الأدوات المتاحة للحفاظ على هيمنتها، بما في ذلك تعزيز نفوذها في النزاعات الإقليمية والضغط على الحلفاء. غير أن فاعلية هذه السياسة تتراجع تدريجياً، إذ تنتقل العديد من الدول، ومنها دول منظمة شنغهاي، بسرعة إلى استخدام العملات الوطنية وتطوير آليات مالية بديلة".
ويشير إلى أن الولايات المتحدة تحاول بالفعل إعادة توجيه سلاسل التوريد العالمية وإنشاء تكتلات اقتصادية مغلقة، لكن هذه الجهود تتعارض مع مصالح حلفائها وتواجه مقاومة متزايدة. في المقابل، تعزز دول منظمة شنغهاي تنسيقها في القضايا الاقتصادية، كما ظهر في خارطة طريق التعاون الطاقي والبيانات المؤيدة للنظام التجاري متعدد الأطراف.
موقع العرب: فرص الجسور العابرة للأقاليم
تؤكّد الوثائق المعتمدة، خاصة خارطة طريق الطاقة وبيان النظام التجاري متعدد الأطراف، أن أبواب التعاون تبقى مفتوحة أمام دول الشرق الأوسط، بما فيها الدول العربية ذات الثقل الطاقي والمالي.
ومن هذا المنطلق، تتعزّز فرضية كوركودينوف بأن الدول العربية مرشحة للعب دور "مراكز محورية" تربط الفضاءات الاقتصادية عبر آسيا الوسطى وجنوب آسيا وشرقها، وتستفيد من منصّات تمويل ومشروعات مشتركة يجري إعدادها داخل المنظمة.
ويقول: "الدول العربية تحتل مكانة متزايدة الأهمية بفضل إمكاناتها وموقعها… ويمكنها أن تكون جسوراً بين المناطق من أجل الاستقرار والأمن".
ويضيف: "العديد من هذه الدول، مثل الإمارات والسعودية، منخرط بالفعل في الهياكل متعددة الأطراف، ويسعى لتنويع شراكاته السياسية والاقتصادية ضمن منظمة شنغهاي وغيرها، يمكن لهذه الدول أن تلعب دور الجسر بين المناطق، بما يعزز الاستقرار والأمن العالميين".
ويخلص الخبير في قراءته لهذه القمة إلى أنه للمرة الأولى منذ سنوات، تقرن "شنغهاي" خطاب التعددية بحزمة وثائق تنفيذية طويلة الأجل (2030–2035)، ما يرفع كلفة التراجع ويزيد قابلية الاستمرارية عبر الدورات السياسية، إضافة إلى تبنّي خارطة طريق للطاقة، مقروناً بمقترحات سندات وبنك واستبدال جزئي للبنى المالية السائدة، يُظهر أن الاقتصاد السياسي للتعددية بات أسبق من الترتيبات الأمنية، فيما تبدو الهند كـ"بيضة القبان" في ميزان القوى العالمية، بينما تحتل الدول العربية أدواراً محورية.