الشأن السوريقصص خبرية

بقدمٍ واحدة وأحشاء مزّقتها شظايا الإجرام.. الوطن لم يعد حنوناً على “أبو عمر” والدواء لا يفيد

لم تشفع له تجاعيد وجهه المتشابكة ولا حتى دعاء أبٍّ معاق ولا صراخ أطفالٍ جياع، حمل حزنه معه من منزلٍ متواضع إلى خيمةٍ مهترئة تخلو من أبسط معايير الحياة، ثَقلها المرض والحاجة وابتسامةُ أملٍ لا تكاد تظهر لتختفي مع أوّل صرخةٍ من ذاك المعاق بزاوية خيمةٍ ترفرف مع أخف نسمة وضحيةُ أوّل رياحٍ عاتية.

“محمد ميسرة” والمعروف بــ”أبو عمر” رجلٌ أربعيني، مع النظر إليه للوهلة الأولى يبدو عليه أنه تجاوز الخمسين، رحل من دمشق إلى حلب وإلى جنوب إدلب ومن ثمَّ حطت به الرحال داخل خيمةٍ مهترئة على الحدود السورية التركية، وحيداً مع أطفاله السبعة وأبٍّ معاق وزوجتين.

في زيارة مراسل وكالة “ستيب الإخبارية” لخيمته الملتوية ذات الأعين الكثيرة، جلس “أبو عمر” بالقرب من إحدى زوايا الخيمة، مشيراً بإصبعه إلى جدران الخيمة المهترئة التي لا تصلح لأن تكون سنداً، فلا تكاد تتحمل نسمة هواء، بدأت الدموع تملأ عينيه وهو يعرفنا على عائلته البسيطة.

“أبو عمر” كان يعمل طيلة حياته في بيع الخضار والفواكه في شوارع دمشق قبل أوّل صرخة في وجه النظام السوري، والتي كانت بداية رحلته المريرة حيث جعلت منه عاجزاً بين أطفاله الصغار دون معيل.

يتحدث وأطفاله ملتمون حوله بملابسهم الخفيفة وسط البرد القارس، يضحكون دون أن يدركوا قسوة الظروف على والدهم: “قضيت حياتي في الحجر الأسود بدمشق، خرجت منها لأن شبح الاعتقال بات يلاحقني، نعم هاجرت نازحاً إلى بلدة كفرسجنة جنوب إدلب”، مع حديثه المؤلم بدأ يبتسم قائلاً: “الحمدلله لأن أقربائي أمنوا لي منزلاً بسيطاً مؤلفاً من غرفة واحدة ننام فيها جميعا، ماذا كان سيحدث حينها لو بقينا دون مأوى؟ والدي المشلول لم يكن ليتحمل كل ذلك”.

822020 6 3

وفي ليلةٍ ظلماء وبينما كان “أبو عمر” وعائلته نيام غدر بهم طيار أعمى فأصبحوا جميعاً على أسرة المشافي، ليفقد رجله بإحدى الشظايا الغادرة، وبينما كان يتحدث فجأة أغمض عينه ماسكاً رجله وكأن الحادثة تجري الآن، ومن ثمّ قال: “حينها قررت العودة إلى مسقط رأسي بالقرب من مخيم اليرموك، تعبنا نعم تعبنا حقاً. كانت رغبتي أن أجد عملاً يساعدني في العيش مع أطفالي لأنني لم أعد قادراً بعد إصابتي، الخوف عشعش بداخل أفراد عائلتي، لم نعد نتحمل”.

822020 6 2

يبدو أن قرار “أبو عمر” لم يكن صائباً، ما أن عاد إلى دمشق، حتى طبق النظام السوري حصاراً شديداً على معظم أحيائه: “أكلنا الأعشاب والقطط، ناهيك عن البقاء دون مأكل أو مشرب لعدة أيام، بقينا على هذه الحال قرابة السنة حتى أخرجونا بالباصات الخضراء إلى ريف حلب عبر معبر جرابلس، وتركونا في دير بلوط وعفرين نصارع البرد والجوع حتى آل بنا المطاف إلى مخيمات الذل في دير حسان بالقرب من الحدود التركية”.

النزوح والفقر كانا كفيلين بظهور ما هب ودب من الأمراض المختلفة في جسده المنهك المتعب، حيث لجأ لعملٍ جراحي قطعت بعض أمعائه بسبب سوء وقلة التغذية التي مرت عليه في أحياء دمشق المحاصرة، ولكن هاجس المحاولة للنهوض على قدميه من جديد لم تفارقه فلديه عائلة بحاجته، وبعد أن أخبره أحد الأطباء أن حالة ساقه المستعصية قد تستجيب بنسبة مقبولة إن أجري لها عمل جراحي وقف صامتاً للحظة.

هنا بدأ يغص ويجهش بالبكاء وهو يدمدم بكلمات لم تفهمها سوى زوجته نوار، وهي جالسة بقربه والتي فسرتها بأنه يقول: “لك عملية شو وأنا مامعي مصاري أشتري دوا لحالي”.

أمسكت “نوار” عبء الكلام وثقله ومرارته عن زوجها “محمد”، فقالت: “حالة الفقر صعبة جداً، إذ لا معين لنا إلا الله، فكل أسبوع يلزمنا 7 آلاف ليرة سورية ثمن أدوية فقط لمحمد وأبيه، وأغلب الأحيان نستدين من أقربائه حتى نهاية الشهر”، تضيف “نحن موعودين بسلة غذائية شهرية، ورغم حاجتنا الملحة لما بداخلها نضطر لبيعها قبل إدخالها المنزل من أجل تسديد ثمن الدواء الذي استدناه سابقاً”.

ولفتت “نوار” إلى أن الأطباء الذين تمّ عرض حالة زوجها “محمد” عليهم، لم يحددوا المبلغ المطلوب منهم لقاء العمل الجراحي، ولكنهم رجحوا أن يتم بترها في حال عدم النجاح بسبب طيلة فترته المرضية دون متابعة طبية.

“أبو عمر” ليس السوري الوحيد الذي ذاق مرارة ما حل بسوريا، وليس الوحيد الذي دفع ثمن رغبته بالعيش حراً، حاله كحال مئات الآلاف من السوريين الذين أصبحوا ضحايا لقوات النظام السوري وحلفائه في القتل والتهجير، فلم يكن منهم سوا الانطلاق نحو المجهول في مخيمات الموت.

اقرأ أيضاً : فيديو || هكذا تبدو مدينة سراقب.. “منازلًا قد أبت إلا أهلها.. سكنى لها وتحولت أطلال”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى