الخصخصة تطحن السائقين.. “ستيب” تكشف كيف بدأ “حيتان السوق” بناء إمبراطوريات “مشبوهة” في غياب القانون
تحاول السُلطات السورية الجديدة البدء بعملية انتعاش اقتصادي بالبلاد المنهكة من الحرب على مدار 14 عاماً، لكن هذا الأمر لا يخلو من تحديات جمّة، حيث تختلف رؤية الحكومة السورية الحالية عمّا كان عليه الأمر بعهد نظام الأسد، فقد اتجهت حكومة الشرع إلى تسريح آلاف الموظفين لتقنين الصرف الحكومي، إضافة لطرح فكرة خصخصة القطاع الحكومي الذي كان يكلّف الحكومة الملايين، ويتسبب بهدر كبير بالموارد، لكن ذلك قد أثار مخاوف العديد من الشرائح بين المواطنين السوريين، حيث تبرز تلك المخاوف من خلال فقدان وظائفهم الحكومية وإمكانية استغلال عملهم من قبل الشركات الخاصة، علاوةً على المحسوبيات التي يمكن أن تؤثر عليهم حيث لا تزال القوانين وفق هذا النظام الجديد ضبابية وغير واضحة، ما يعطي فرصة لـ”حيتان السوق” ببناء “إمبراطورياتهم” المشبوهة.
ما هو مفهوم الخصخصة؟
الخصخصة هي عملية تحويل ملكية أو إدارة الأصول التي تمتلكها الدولة في القطاع العام إلى القطاع الخاص، بهدف تحسين الكفاءة التشغيلية وجذب الاستثمارات.
في سوريا، تسعى الحكومة المؤقتة إلى تنفيذ إصلاحات اقتصادية واسعة النطاق تشمل خصخصة الشركات الحكومية وتقليص عدد موظفي القطاع العام بنحو الثلث، وتهدف هذه الخطط إلى إنعاش الاقتصاد المنهك، وتقليل الفساد والهدر المالي.
ومع ذلك، تواجه عملية الخصخصة تحديات كبيرة. فقد أثار تسريح الموظفين الحكوميين وخصخصة الأصول السيادية مثل الموانئ والمطارات جدلاً واسعاً، ويخشى البعض من تبديد أصول الدولة دون دراسة كافية، بينما يرى آخرون أن الخصخصة قد تكون حلاً لتحسين كفاءة المؤسسات وجذب الاستثمارات.
بالإضافة إلى ذلك، يُعتبر غياب الخطط الاستراتيجية والتشريعات الضامنة للشفافية والمنافسة العادلة من أبرز التحديات التي قد تعترض طريق الخصخصة في سوريا. ويؤكد الخبراء على ضرورة وجود إطار قانوني واضح يضمن حقوق العمال ويحمي الفئات الاجتماعية الضعيفة.
وبشكل عام، يُنظر إلى الخصخصة في سوريا كخطوة نحو تحسين الاقتصاد، لكنها محفوفة بالتحديات والمخاطر، ويتطلب نجاحها دراسة متأنية وتخطيطاً استراتيجياً لضمان تحقيق الفوائد المرجوة دون المساس بمصالح المواطنين.
ومن أبرز التحديات وفق الخبراء ” غياب التشريعات الناظمة، مخاوف فقدان الوظائف، ضعف دور النقابات، سيطرة “حيتان السوق” واستغلال النفوذ، الغموض حول الجهة الرقابية المسؤولة عن الخصخصة”.
شكاوى من محسوبيات وغياب الشفافية
على الرغم من أن عملية الخصخصة لم تبدأ بعد في سوريا، إلا أن شكاوى وردت لوكالة “ستيب الإخبارية” من قبل سائقي الشاحنات العاملين في الساحل السوري وحمص، تؤكد أنهم يتخوفون من سقوطهم تحت رحمة الشركات الخاصة، مع غياب فعالية مكاتب الدور الحكومية التي كانت تؤمن دوراً لهؤلاء السائقين في نقل البضائع والمنتجات من الموانئ والمعامل.
وفي مقطع فيديو أرسله أحد السائقين فضّل عدم ذكر اسمه، يقول إن الشاحنات التي باتت تعمل بنشاط أكبر تعود لمقربين من “الهيئة” في إشارة إلى الحكومة الجديدة، بينما توقف عمل مكاتب الدور التي كانت تنظم عملهم.
واعتصم عدد من السائقين المتضررين من قرار إغلاق مكاتب الدور وتسليم المهمة لتجار وشركات غير معروفة، مطالبين بتفعيل عملية الدور لسائقي الشاحنات لضمان العدالة فيما بينهم، وعدم ترك الأمر للتجار الذين يبنون إمبراطوريات مالية مشبوهة في ضل غياب القوانين الناظمة لعملهم حتى الآن.
وحسب أحد السائقين فإن عملهم كان منظماً من خلال مكتب الدور الذي يعطي لكل شخص منهم يملك شاحنة نقل خاصة إمكانيه نقل عدة أحمال من البضائع أبرزها الفوسفات والقمح من حمص، والبضائع من مينائي اللاذقية وطرطوس، وهو ما كان يؤمن نوعاً من العدالة لهم رغم الأجور الزهيدة والضرائب التي كانت تفرضها عليهم الحكومات المتعاقبة بعهد النظام البائد.
ويؤكد السائقون أن غياب الشفافية والقوانين العادلة بعملية خصخصة القطاع العام قد يضعهم تحت رحمة “حيتان السوق” ومن يملك أساطيل نقل خاصة ولديه “واسطات”، في إشارة إلى تغلغل الفساد مجدداً بهذه العملية.
الحلول وفق خبراء
ومع معاناة السوريين على مدار عقود من الفساد الإداري في الحكومات والسلطات بعهد النظام البائد، كانوا يأملون بتغيير يعطيهم حقوقهم خلال العهد الجديد الذي بدأ بناء “دولة القانون”.
ويقول الخبير الاقتصادي السوري، الدكتور أسامة القاضي، في حديث لوكالة “ستيب الإخبارية”: ” لا يوجد أمام الحكومة السورية أي خيار سوى فتح المجال أمام مؤسسات القطاع الخاص للاستثمار في القطاع العام، الذي عانى من الخسائر على مدار أربعة عقود، ولا يوجد سوى هذا الخيار”.
ويضيف: “عملية إدارة القطاع الخاص للقطاع العام ستكون ضمن عقود محددة، تُوضح حجم العمالة والأرباح وغيرها من التفاصيل، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل قطاع على حدة”. مشيراً إلى أنه لا يمثل حجم العمالة في القطاع العام في سوريا أكثر من 20% من إجمالي العمالة السورية. ويوضح أن سائقي الشاحنات وغيرهم سيدخلون في عملية المنافسة بين الشركات الخاصة المستثمرة في القطاعات العامة.
ويؤكد القاضي أنه “لن يكون هناك أحد تحت رحمة أحد، فهناك سوق يعتمد على العرض والطلب فيما يخص الأجور والتعامل مع السائقين. حيث سيكون هناك إنتاج أكبر، مع اللجوء إلى سلاسل توريد كبيرة قادرة على تنفيذ عمليات نقل البضائع”.
وبالوقت عينه يشدد الخبير الاقتصادي على أنه “يجب أن تكون وزارة المواصلات معنية بصياغة قوانين لحماية سائقي الشاحنات، إضافة إلى وجود نقابات وجمعيات تمثلهم حتى لا يكون أحد تحت رحمة أحد في هذا المجال، ضمن إطار قانوني واضح”.
ويلفت إلى أن عدد الشاحنات وأساطيل النقل المحلية لن تكفي البلاد في المستقبل المنظور، لا سيما مع تحسن الوضع وبدء إعادة الإعمار، ويقول: ” أتوقع دخول شركات عربية وأجنبية للاستثمار في القطاع العام. فعند بدء عملية الإعمار ودخول المصانع والمعامل وتوسيع السوق المحلية، سيتطلب الأمر ضعف ما تملكه سوريا من أساطيل النقل الموجودة حالياً”.
هل بدأت الخصخصة فعلاً؟
في المنافذ البحرية لم ترد أي معلومات عن خصخصة قد بدأت، إلا أن تقاريراً أكدت أن الحكومة الانتقالية جددت عقد شركة “سي إم إيه سي جي إم” (CMA CGM) الفرنسية لتشغيل محطة الحاويات في ميناء اللاذقية، دون تقديم معلومات حول وجود شروط أو تفاصيل جديدة تختلف عن سابقتها بعهد النظام البائد.
أما بالنسبة لميناء طرطوس، فقد أُبرم عقد استثمار مع شركة “ستروي ترانس غاز” (Stroytransgaz) الروسية في عام 2019 لمدة 49 عامًا، وفي فبراير 2025، ظهرت تقارير تفيد بإنهاء العقد من قبل الإدارة السورية الجديدة، مع خطط لإعادة هيكلة المرفأ وتخفيض الرسوم الجمركية لتعزيز تنافسيته. ومع ذلك، نفت الشركة الروسية هذه التقارير، مؤكدةً استمرار عملها كالمعتاد وعدم إلغاء العقد.
وحسب ما ورد من معلومات فإن النشاط الروسي في البلاد يأتي حالياً تحت عملية إعادة دراسة وتفاوض ربما بين دمشق وموسكو، وقد تتضح معالمه قريباً.
كما أن ذات الشركة الروسية مسؤولة عن استخراج الفوسفات من ريفي حمص وتدمر، وفق عقد موقع عام 2018 مع الشركة العامة للفوسفات والمناجم في سوريا، ويبدو أنه لا يزال ساري المفعول.
إلا أن المثير للجدل هو أن النقل لمواد الفوسفات كان بيد شركة إيرانية، ومع انتهاء النفوذ الإيراني بسوريا لم يعرف من يعمل على نقل الفوسفات من المناجم إلى الموانئ.
جدير بالذكر أن سوريا تعد من أكبر منتجي ومصدري مادة الفوسفات في العالم، ما جعله واحداً من الثروات الوطنية التي قدمها النظام البائد لحلفائه مقابل دعمه عسكرياً.
وكانت حكومة تصريف الأعمال أعلنت أنها تدرس “خصخصة” القطاع العام وطرحه أمام الاستثمار، لكن ومع انتهاء عملها في مارس الماضي وتسلّم حكومة انتقالية جديدة برئاسة الرئيس السوري أحمد الشرع، لم يرد أي قرار يتعلق بدخول شركات خاصة إلى القطاع العام.
ويبدو أن الخصخصة في سوريا لم تبدأ فعليًا على نطاق واسع، لكنها باتت أمراً واقعاً في بعض القطاعات الحساسة، ونجاحها يعتمد على وضوح القوانين، وحماية الفئات الأضعف، والرقابة الصارمة على عمليات الانتقال من القطاع العام إلى الخاص، حتى لا يتم استغلال الأمر من قبل “حيتان السوق” والعودة بالبلاد إلى زمن المحسوبيات و”الأتاوات” وفرض شريعة “الغاب” من خلال تحكم “الأقوياء” المقربين السُلطات بلقمة عيش المواطن.
