وفيما يلي، سأحاول تقديم إجابة عن الأسئلة الثلاثة السابقة:
أولًا: من أين نحن قادمون؟
الجواب السريع والمباشر على هذا السؤال: من حربٍ دامت خمسة عشر عامًا، سوداء ومُرّة، لم تترك لا أخضرًا ولا يابسًا. حرقت الزرع والضرع، وحوّلت المجتمع السوري إلى أشلاء على كافة المستويات: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية (وحتى النفسية!). ويمكن هنا أن تخدمنا الأرقام قليلًا لندرك حجم الهوّة التي نحن فيها، أو التي نحن قادمون منها... ففي آخر تقرير أصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي حول سوريا، قُدرت خسائر صافي الناتج المحلي السوري بنحو 800 مليار دولار.وبحسب مؤشرات مدركات الفساد الصادرة عن منظمة الشفافية الدولية عام 2024، حصلت سوريا على درجة 13 على مقياس يتراوح من 0 (فاسد للغاية) إلى 100 (معايير الشفافية عالية ومثالية)، وهي من بين أسوأ المعدلات عالميًا. وفي قائمة أسوأ المدن للعيش في العالم، كانت دمشق في الصدارة، وسوريا عمومًا تتنافس مع اليمن، الصومال، وزيمبابوي على المرتبة الأولى.يشير التقرير الأممي إلى أرقام مروّعة حول كل ما يتعلق بمؤشرات الاستقرار الأمني، وتدهور البنى التحتية، وشبكات الصرف الصحي، وعدم توفر مياه شرب نظيفة، وانعدام الكهرباء ومصادر الطاقة، وانتشار الأمراض والأوبئة، وانهيار التعليم والصحة والقضاء، إلى جانب تفشي الفقر بشكل غير مسبوق. وفي تقرير مضحك مبكٍ لمركز "جسور للدراسات"، تمّ رصد 830 موقعًا عسكريًا في سوريا يعود لأكثر من 16 دولة أجنبية، تتمركز فيها قوات أو قواعد أو نقاط استخبارات على الأراضي السورية المستباحة فعليًا. هذه لمحة سريعة عمّا أوصلتنا إليه الحرب الكارثية، والى أي درك بلغنا.إنه الواقع الذي لا يرحم. من هنا نبدأ، ومن هنا كان علينا التحرك والمتابعة والبناء كسوريين عشية سقوط النظام بالضبط.ثانيًا: أين نحن الآن؟
منذ سقوط النظام، كانت المهمة الأكبر أمام السوريين، دولةً وشعبًا، هي السلم الأهلي.كان السلم الأهلي هو المفصل الحقيقي للمرحلة، وعنوانها الفعلي والأهم على كافة الصعد. لقد كنا أمام اختبار صعب وخطر، وكانت السلطة السورية الجديدة التي تولت زمام الأمور أمام هذا الاختبار وجهًا لوجه.المشهد كان حساسًا وشديد القابلية للانفجار:من جهة، أقليات خائفة ومتشنجة وشبه مسلحة (والشعب السوري بمجمله كان شبه مسلح كنتيجة طبيعية لفوضى السلاح خلال الحرب الأهلية).ومن جهة أخرى، فوضى مجتمعية منفلتة منتشرة في كافة الأرياف والمدن السورية: طائفية، وتطرف، وعشائرية، ومناطقية، وتحزّب، وصراعات شخصية ونزاعات فردية. كل ذلك انفجر دفعة واحدة، وهدد بانزلاق المجتمع نحو التفكك وفوضى لا قعر لها.في الحقيقة، كان الوضع منفتحًا على كافة الاحتمالات، بما فيها الأكثر سوداوية. وكان احتمال "الصوملة" واقعيًا للغاية.وخلاصة القول:
نحن اليوم، وبعد نحو ثمانية أشهر على سقوط نظام الطغيان، قد قطعنا أشواطًا واسعة في اختبار السلم الأهلي.ورغم بعض التوترات هنا وهناك، يمكن القول إنّ المرحلة الأخطر قد أصبحت خلفنا.ثالثًا: إلى أين؟
إن مرحلة ما بعد ترسيخ السلم الأهلي هي مرحلة بناء الدولة.إنها الانتقال إلى المستوى الأعلى من العمل الوطني:إلى بناء المؤسسات، وتحقيق سيادة القانون، واستكمال التحول الديمقراطي. لم يعد العمل أهليًا وعفويًا فقط، بل نحن بحاجة إلى عمل سياسي منظم ومؤسساتي.والإجابة على سؤال "إلى أين؟" واضحة: إلى بناء الدولة.فما هي متطلبات بناء الدولة السورية اليوم؟ يمكن تلخيصها بثلاث مهام حاسمة:
توحيد الجغرافيا السورية:- سوريا دولة موحدة، مركزية، عاصمتها دمشق.
- دولة قانون ومواطنة، لا تقبل بوجود حي أو قرية خارج سلطة الدولة، أو خاضعة لميليشيا أو جهة غير حكومية.
- سيادة القانون يجب أن تسري على كامل التراب السوري، بلا استثناء.
تحدي التنمية:
- في ظل التخريب الممنهج للبنية التحتية، نواجه اليوم تحديًا وجوديًا هو التنمية.
- الاقتصاد منهار، والفقر كارثي، وكثير من العائلات السورية تعيش على وجبة واحدة يوميًا.
- من دون تنمية حقيقية، لا يمكن للدولة أن تقوم.