مع اقتراب موعد زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، تتسارع وتيرة الأحاديث عن اتفاق أمني محتمل بين سوريا وإسرائيل، برعاية أمريكية ومتابعة دولية مكثفة. مصادر دبلوماسية تحدثت عن جولات تفاوض جدية جرت في لندن وباكو وباريس، بينما تتحدث التسريبات الإسرائيلية عن مقترح يجعل الجنوب السوري منطقة منزوعة السلاح، مع قيود على الانتشار العسكري والتحركات الجوية، وبينما تراهن واشنطن على تحقيق تقدم ملموس لتسويقه كإنجاز سياسي، ترى دمشق في هذه التفاهمات فرصة لتثبيت الاستقرار الداخلي وتخفيف وطأة الضربات الإسرائيلية المتكررة.
اتفاق 1974 منهار فهل يعود؟
يعود ملف الترتيبات الأمنية في الجنوب السوري إلى اتفاق فضّ الاشتباك عام 1974، الذي أنشأ منطقة فصل تحت رقابة قوة الأمم المتحدة (UNDOF)، غير أن الحرب السورية وتداعياتها غيّرت موازين القوى، إذ تكررت الضربات الجوية الإسرائيلية على مواقع داخل الأراضي السورية بذريعة منع التموضع الإيراني، ثم ارتفعت وتيرتها بعد سقوط النظام السوري، حتى أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي انهيار هذا الاتفاق، فيما بقيت دمشق منشغلة بإعادة بناء مؤسساتها الأمنية والعسكرية الجديدة.
اليوم، تعود فكرة الترتيبات الأمنية لكن بغطاء أمريكي مباشر، في محاولة لتقديم صيغة جديدة تحاكي اتفاقية سيناء بين إسرائيل ومصر، من خلال تقسيم مناطق الجنوب إلى شرائح متفاوتة القيود على السلاح والتحركات، وحظر تحليق الطيران السوري في بعض المناطق في الجنوب السوري.
تقارير أمريكية وإسرائيلية نقلت أن إسرائيل قدّمت لمسؤولين سوريين مقترحاً مفصلاً لآلية أمنية في الجنوب السوري، يشمل خريطة مناطق منزوعة السلاح تمتد من محيط دمشق حتى الحدود الإسرائيلية، قيوداً على وجود القوات السورية الثقيلة قرب الشريط الحدودي، وحظراً على تحليق طائرات سورية فوق ممر جوّي بين دمشق والحدود — ما وصفه بعض المصادر بأنه "ممر جوي" يسمح لإسرائيل بحرية محاكاة هجوم أو ضربات مستقبلية إذا دعت الحاجة.
بينما تريد دمشق اتفاقات "توقف الأعمال العسكرية داخل سوريا" وتحترم سيادة البلاد، وأن أي تفاهم يجب أن يؤسس على خطوط 1974 للفضّ بين القوات ويكون تحت رقابة أممية. في المقابل، تقارير غربية وإسرائيلية تشير إلى أن إسرائيل تصرّ على الاحتفاظ ببعض المواقع الاستراتيجية مثل قمة جبل الشيخ، أو على الأقل ضمان قدرة عملياتية في المجال الجوي على الجهة المقابلة.

ضغوط أمريكية قبل نيويورك
يرى وائل علوان، الباحث السياسي في الشأن السوري، خلال حديث لوكالة ستيب نيوز أن الوصول إلى اتفاق – ولو بصيغته العامة – سيكون، برأيه، قبل زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى نيويورك.
ويقول: "هذا ما تريده الولايات المتحدة الأمريكية، إذ تسعى إلى مخرج توافقي يشير إلى وجود استقرار نسبي في سوريا قبل أن يظهر الرئيس الشرع في جلسة الأمم المتحدة".
ووفق مصادر دبلوماسية غربية، واشنطن تعتقد أن أي تقدم في المسار السوري–الإسرائيلي سيشكل ورقة قوية للرئيس الأمريكي لعرضها في أروقة الأمم المتحدة، كما قد يُسهم في تهدئة إقليمية تعزز صورة الولايات المتحدة كضامن للاستقرار في الشرق الأوسط.
حسابات إسرائيل بين الأمن والفوضى
الخطة التي تطرحها إسرائيل تقسم المنطقة الجنوبية لثلاث مناطق تتدرج فيها عملية نزع السلاح، تبدأ من حدود الجولان وتصل إلى حدود دمشق.
علوان يوضح أن إسرائيل ترى أن هذا التقسيم غير كافٍ لضمان أمنها، لكنه مقبول في المرحلة الراهنة، مضيفاً: "ما تريده تل أبيب أيضاً هو أن تظل تراقب كل التحركات الأمنية والعسكرية في سوريا، وأن تضمن عدم عودة سوريا إلى دولة قوية قادرة على الدفاع عن نفسها".
هذه الرؤية تعبّر عن معضلة إسرائيلية مستمرة: فهي لا تريد انهيار سوريا بشكل كامل بالفوضى لما يحمله من مخاطر فوضوية على حدودها، لكنها في الوقت ذاته لا ترغب بعودة دولة سورية قوية قد تعيد طرح ملف الجولان بقوة على الساحة الدولية.
الأبعاد الإقليمية والدولية
بحسب علوان، فإن أمن سوريا له أكثر من بعد: الأول إقليمي ودولي، حيث يُنظر إلى استقرار سوريا كبوابة لاستقرار المنطقة، وهو ما قد يشجّع إسرائيل على التجاوب مع بعض الضغوط.
والثاني إدراك تل أبيب أن الفوضى في سوريا ستنعكس على أمنها الداخلي، ما يجعل من مصلحتها الاستراتيجية أن تبقى سوريا "آمنة ولكن ضعيفة".
غير أن علوان يشير إلى أن "حكومة نتنياهو الحالية تتعامل مع الملف السوري بمنطق مختلف يقوم على الاستثمار في الفوضى ومراكمة القوة، وهو ما يخالف حتى الرؤية الإسرائيلية بعيدة المدى، فضلاً عن رغبة واشنطن في التهدئة".
موقف دمشق: واقعية وارتباط بالمصالح
دمشق بدورها تتعامل بواقعية مع المشهد الداخلي، فالبلاد خرجت من حرب مدمّرة وجيش وليد بقدرات دفاعية ضعيفة. في هذا السياق، يوضح علوان أن "الحكومة السورية اليوم تريد ربط مصالح سوريا بمصالح المنطقة والولايات المتحدة، وهو ما قد يشكّل ضمانة لاستقرارها".
ومن منظور سوري، فإن المستفيد من أمن سوريا واستقرارها سيكون هو الضامن للحفاظ على هذا الاستقرار، سواء كانت الولايات المتحدة أو أطراف إقليمية، وذلك من خلال منع أي طرف – بما في ذلك إسرائيل أو إيران – من العبث مجدداً بأمن البلاد.
الترتيبات الأمنية على الأرض
الحديث الجاري في الجولات التفاوضية يدور حول آليات لضبط الجنوب السوري. علوان يرى أن دمشق قادرة عملياً على ضبط المنطقة الجنوبية أمنياً عبر الشرطة والأجهزة الأمنية، مضيفاً: "إذا دعت الحاجة إلى تدخل أوسع، فستنسّق بلا شك مع الولايات المتحدة وروسيا، وتسعى إلى تشكيل آلية لمكافحة الإرهاب في سوريا، شريطة أن تلتزم إسرائيل باحترام هذا المسار".
التفاهمات الأمنية المقترحة تتضمن سحب السلاح الثقيل من بعض المناطق، وفرض قيود على تحركات عسكرية، إضافة إلى إشراف أممي محتمل لضمان تنفيذ البنود.

تركيا… ذريعة إسرائيلية
فيما يرى البعض أن الوجود التركي المتوقع داخل سوريا قد يشكل عنصراً مؤثراً في الملف السوري وسط رفض إسرائيلي تام لهذا الوجود، يعتبر علوان أن القضية السورية ليست مرتبطة بالوجود التركي بقدر ما هي مرتبطة باستثمار إسرائيل في حالة الضعف والتفكك داخل سوريا.
ويضيف: "إسرائيل تريد استمرار هذه الحالة، وقد تستخدم مسألة الوجود التركي كذريعة لتوسيع تدخلها في سوريا".
لكن التفاهمات الأمنية – إذا ما أُبرمت – قد تنزع هذه الذريعة وتفتح الطريق أمام تسوية معقولة في الجنوب، حتى لو كانت نسبية أو جزئية في المرحلة الراهنة.
ملف الجولان مؤجل
من القضايا الجوهرية التي يراقبها الشارع السوري ملف الجولان المحتل، "علوان" يوضح أن الجولان ليس مطروحاً حالياً على طاولة البحث، وسيُترك إلى مرحلة لاحقة ترتبط بالاتفاقيات الأمنية.
ويضيف: "ما يجري النقاش حوله اليوم هو الترتيبات الأمنية فقط. وقد نجحت الرياض في إقناع واشنطن بأن الدخول في مسار الاتفاقيات السياسية الكبرى يحتاج إلى وقت أطول وجهد أكبر".
وهذا يعني أن أي اتفاق وشيك سيكون محصوراً في البعد الأمني، بعيداً عن ملفات التطبيع أو التسويات السياسية الشاملة، وهو ما ذكره الرئيس السوري أحمد الشرع مؤخراً، حين أكد أن الاتفاق قد يكون خلال وقت قصير لكن ملف الجولان غير مطروح على الطاولة.
العقبات والتحديات والسيناريوهات المحتملة
أبرز العقبات تتمثل في التباينات حول المواقع الاستراتيجية مثل جبل الشيخ، إضافة إلى حساسيات داخلية لدى أطراف محلية في الجنوب قد تنظر إلى أي اتفاق كتنازل. كما أن روسيا تراقب التطورات عن كثب، إذ ترى في أي تفاهم أمريكي–إسرائيلي–سوري تهديداً لبقاء نفوذها في سوريا، خصوصاً أنها أدارت هذا الملف خلال السنوات الأخيرة قبل سقوط نظام الأسد.
أما السيناريو الأقرب وفق الخبير السوري هو التوصل إلى تفاهمات مرحلية تُعلن قبل وصول الرئيس الشرع إلى نيويورك، لتُعرض كإنجاز دبلوماسي، وهذه التفاهمات قد تشمل وقف الضربات الجوية الإسرائيلية، وانسحاباً تدريجياً للقوات السورية من الجنوب، مع الأخذ بالاعتبار أنها لم تتموضع بشكل رسمي منذ سقوط نظام الأسد، وذلك مقابل التزامات متبادلة بضبط الحدود ومنع أي وجود عسكري خارجي.
بينما السيناريو الآخر، فيتمثل بتعثر المفاوضات بسبب الخلافات حول التفاصيل الميدانية، ما قد يدفع إسرائيل إلى مواصلة سياسة "الضربات الوقائية"، فيما تحاول دمشق تحصين موقعها عبر التمسك بالإشراف الأممي والضغط عبر حلفائها.
ويقف المشهد السوري–الإسرائيلي اليوم أمام لحظة فارقة: تفاهمات أمنية قد تفتح الباب أمام مرحلة من الاستقرار النسبي في الجنوب، لكنها تظل رهينة حسابات إقليمية ودولية معقدة.
وبينما تراهن واشنطن على إنجاز سريع، وتبحث تل أبيب عن صيغة تُبقي سوريا تحت سقف القوة المحدودة، تبقى دمشق تحاول الموازنة بين حماية سيادتها والحاجة إلى وقف نزيف الصراع.
وفي ضوء تصريحات الباحث وائل علوان، تبدو احتمالات التوصل إلى اتفاق أولي قائمة بقوة قبل نيويورك، لتتحول لاحقاً إلى اختبار حقيقي لمستقبل سوريا وأمن المنطقة.