في تطور يعكس تحوّلًا لافتًا في خريطة التموضع العسكري الأميركي داخل سوريا، كشفت وكالة “رويترز” نقلاً عن ستة مصادر مطلعة، أنّ الولايات المتحدة تستعد لتأسيس وجود عسكري لها في قاعدة جوية بالعاصمة دمشق، في خطوة قالت الوكالة إنها تهدف إلى تمكين تنفيذ اتفاق أمني تتوسط فيه واشنطن بين سوريا وإسرائيل، ووفقًا للتقرير، فإن القاعدة الجديدة ستُستخدم لدعم مراقبة مناطق الجنوب السوري التي يُتوقع أن تكون ضمن نطاق اتفاق أمني جديد، وربما لإدارة ترتيبات لوجستية وإنسانية مرتبطة به، لكن أين ستكون هذه القاعدة وهل يمكن أن تتبع لقاعدة التنف أو تحل محلها، وماذا عن الوجود الروسي المستمر في سوريا؟
1- قاعدة جديدة أم إعادة شرعنة لـ“التنف”؟
هذا الإعلان غير المسبوق عن نية واشنطن إنشاء وجود عسكري في دمشق يثير تساؤلات جوهرية حول أهدافه الفعلية، فهل تسعى الولايات المتحدة إلى “شرعنة” وجودها العسكري القائم أصلًا في قاعدة التنف على المثلث الحدودي السوري–العراقي–الأردني، أم أنها بصدد إنشاء قاعدة جديدة قرب الجولان لتكون على تماس مباشر مع إسرائيل؟
في هذا السياق، يرى الكاتب والمحلل السياسي فراس علاوي، خلال حديث مع وكالة ستيب نيوز أن الحديث لا يقتصر على قاعدة واحدة، بل على “إعادة توزيع شاملة للوجود الأميركي في سوريا”، موضحًا أن “المهمة الأساس هي مراقبة الاتفاق جنوب سوريا، ومراقبة الجنوب بشكل كامل”.
وأضاف علاوي أنه “إضافةً إلى التنف، سيكون هناك على الأرجح قاعدة أخرى، فالتنف مهمتها مراقبة البادية السورية تحسّبًا لاحتمالات عودة التنظيمات المتطرفة، ولتأمين خطوط الدعم للقوات المنتشرة في الشرق السوري”.
ويشير إلى أن الخطوة الأميركية “تندرج ضمن إعادة تموضع القوات بما يتوافق مع المستجدات الحالية ومتطلبات الحكومة السورية والاتفاقات قيد البحث مع واشنطن”، في إشارة ضمنية إلى التطور في العلاقات بين دمشق والإدارة الأميركية منذ بداية العام.
2- واشنطن “الضامن الوحيد” أم اللاعب المصلحي؟
السؤال الثاني الذي يفرض نفسه، هل يمكن الوثوق بالولايات المتحدة كـ “ضامن” لاتفاق أمني بين سوريا وإسرائيل، وهي الحليف التاريخي الأقوى لتل أبيب؟
يقول فراس علاوي إن “لا دولة غير الولايات المتحدة يمكن أن تكون ضامنًا فعليًا، لكنها ليست بالضرورة ضامنًا موثوقًا”، موضحًا أن “موثوقية واشنطن ترتبط بسياساتها ومصالحها المتغيرة؛ فهي تنطلق أساسًا من تحالفها مع إسرائيل، فإذا توافقت المصالح كانت أقرب إلى تل أبيب، وإن تعارضت فقد تميل إلى خطوات توازن الموقف”.
وتتلاقى هذه القراءة مع تقديرات دبلوماسية تداولتها وسائل غربية خلال الأسابيع الأخيرة، تشير إلى أن واشنطن تسعى لأن تكون “الوسيط والضامن” لأي ترتيبات مستقبلية على الحدود السورية الإسرائيلية، ضمن مقاربة “خفض التصعيد الدائم” التي تعمل عليها بالتنسيق مع عمّان.
3- بين الوجود الأميركي والروســي: توازن أم تصادم بارد؟
إحدى القضايا التي يثيرها التحرك الأميركي الجديد هي انعكاساته على الوجود الروسي في سوريا، لا سيما أن موسكو تعتبر نفسها الضامن الرئيس للترتيبات الأمنية السابقة في الجنوب منذ اتفاق 2018، ولديها قواعد استراتيجية في الساحل السوري.
وفي هذا الشأن، يرى علاوي أن “شرعنة الوجود الأميركي خطوة تتواءم مع توجه الحكومة السورية غربًا، لكنها قد تثير انزعاجًا روسيًا محدودًا”، مضيفًا: “روسيا تركز حاليًا على الساحل ومناطق النفوذ البحري، وربما تنظر إلى القواعد الأميركية قرب دمشق كمصدر إزعاج، لكنها لا تمثل تهديدًا مباشرًا أو سببًا لصدام، إذ إن الوجود الأميركي في سوريا لم يؤدّ إلى مواجهات مع الروس في السابق”.
ويشير مراقبون إلى أن واشنطن تسعى منذ أشهر إلى إعادة رسم خريطة نفوذها العسكري في سوريا بطريقة تجعلها أقرب إلى مناطق التأثير السياسي والأمني، وليس فقط مواقع العمليات ضد تنظيم “داعش”، وذلك لتكون فاعلًا مباشرًا في أي ترتيبات مستقبلية تخص الجنوب السوري أو الحدود مع إسرائيل.
4- هل الاتفاق الأمني جاهز للتوقيع؟
من الأسئلة الجوهرية أيضًا ما إذا كان هذا الحراك العسكري مؤشّرًا على نضوج الاتفاق الأمني السوري الإسرائيلي المنتظر توقيعه قريبًا، خصوصًا مع ما تسرّب عن زيارة مرتقبة للرئيس السوري أحمد الشرع إلى واشنطن لبحث “الترتيبات النهائية”.
يرى فراس علاوي أن “الحديث عن اتفاق أمني نهائي ما يزال في طور الإعداد، وربما يكون الإعلان الأميركي مجرد مقدمة للوصول إليه”، مشيرًا إلى أن الاتفاق المرتقب “قد يكون تطويرًا لاتفاق 1974 وليس استنساخًا له، عبر توسيع بنود المراقبة وتثبيت آليات دولية جديدة بإشراف واشنطن”.
ويضيف أن “الولايات المتحدة اليوم تتعامل مع واقع جديد في سوريا بعد التحولات السياسية الأخيرة، وتبحث عن تثبيت دورها كضامن لأي تفاهم مستقبلي بين دمشق وتل أبيب، خصوصًا في ظل انشغال روسيا بالملف الأوكراني وإعادة ترتيب أولوياتها في الشرق الأوسط”.
التكتيك الأمريكي بسوريا
إن إعلان نيّة واشنطن إقامة قاعدة عسكرية في دمشق، أياً كان موقعها النهائي، يشير إلى تحول نوعي في طبيعة الحضور الأميركي داخل سوريا، من وجود تكتيكي مبرر بعمليات مكافحة الإرهاب، إلى وجود سياسي أمني يسعى لترسيخ نفوذ الولايات المتحدة في هندسة ما بعد الصراع السوري، وضمان دورها في أي اتفاق حدودي قادم مع إسرائيل.
كما يبدو أن دمشق، التي دخلت منذ مطلع العام في مرحلة سياسية جديدة، تتجه إلى تطبيع تدريجي للعلاقات الأمنية والدبلوماسية مع الغرب، مقابل حوافز اقتصادية ورفع تدريجي للعقوبات، وهو ما يفسر استعدادها لقبول ترتيبات أميركية من هذا النوع، طالما أنها تجري تحت مظلة سيادتها الرسمية.
وبينما يُنتظر أن تتضح تفاصيل الاتفاق الأمني خلال الأسابيع أو الأيام المقبلة، فإن المشهد السوري يدخل مرحلة إعادة تموضع جيوسياسي تتقاطع فيها مصالح واشنطن وموسكو وتل أبيب ودمشق، وسط سباق دقيق لإعادة تعريف مناطق النفوذ وضمان الاستقرار الحدودي، ومع أن التحركات الأميركية الجديدة قد لا تغيّر التوازن العسكري جذريًا، فإنها بلا شك تؤسس لمرحلة مختلفة من التفاعل بين واشنطن ودمشق قد يكون الأول من نوعه.