تشهد الساحة السورية تحركات غير مسبوقة توحي بوجود تفاهم عسكري متقدم بين أنقرة ودمشق والرياض، يتجاوز حدود التنسيق الأمني إلى مرحلة نقل المعدات والتدريب المشترك، فبحسب مصادر ميدانية متطابقة، يشمل هذا التعاون تزويد الجيش السوري بسيارات مصفحة وطائرات مسيّرة ومدفعية ميدانية وصواريخ دقيقة وأنظمة دفاع جوي من تركيا، في خطوة توصف بأنها الأوسع بين الجانبين، إلى جانب تدريب القوات السورية في تركيا والسعودية.
ويرى مراقبون أن هذا التقارب العسكري، الذي تسارعت وتيرته مؤخراً، يمثل تحولاً استراتيجياً في مقاربة دمشق وأنقرة والرياض للمشهد الجديد في الشرق الأوسط، خصوصاً في ضوء مشاريع التوسع والهيمنة الإسرائيلية من جهة وتراجع أدوار لدول أخرى مثل روسيا وإيران وحتى الولايات المتحدة التي تحاول الانسحاب البطيء، فكيف سيكون شكل التحالف الجديد وما هي أهدافه؟
صدام وشيك مع “قسد”: خيار عسكري تفرضه الوقائع
يُجمع المتابعون على أن هذا التحالف الناشئ يرتبط بشكل أو آخر بتصاعد التوتر شمال شرقي سوريا، حيث تسيطر “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وتشير المعطيات إلى أن الخيار العسكري بات مطروحاً بجدية على طاولة دمشق وأنقرة بعد فشل مساعي التفاهم السياسي مع قيادات “قسد” ودمجها بقوات الحكومة السورية الجديدة.
وفي هذا السياق، يؤكد الدكتور مهند حافظ أوغلو، خبير العلاقات الدولية، خلال حديث لوكالة ستيب نيوز أن ما يجري اليوم هو نتيجة طبيعية لتعنّت تلك القوى ورفضها أي حل وطني شامل، قائلاً: “لم تترك قسد ومن خلفها قيادات الـPKK، وكذلك إيران، أي خيار لا لدمشق ولا لأنقرة سوى الخيار العسكري. لن يكون هناك حل لسيطرة الحكومة السورية على كامل الجغرافيا إلا من خلال حسم ميداني قوي، رغم ما سيحمله ذلك من ارتدادات”.
ويضيف أوغلو أن التفاهمات الأمنية والعسكرية الجارية بين الجانبين السوري والتركي “تتجاوز التنسيق الميداني إلى بناء صيغة جديدة من اتفاقية أضنة”، موضحاً أن “هناك مساراً لتأسيس اتفاق أمني أعمق وأكثر شمولاً، يتيح للجيشين العمل بشكل متكامل ضد الجماعات الانفصالية والإرهابية”.
وبحسب التحليلات المتقاطعة، فإن أنقرة ترى في المعركة المقبلة ضرورةً استراتيجية لحسم مناطق النفوذ في الشمال الشرقي لسوريا وإعادة السيطرة فيها لسلطة الحكومة في دمشق، خصوصاً أن هذه المناطق غنية بالنفط والقمح، وتمثل عمقاً اقتصادياً حيوياً لأي تسوية قادمة في سوريا من جهة، كما أن تركيا تعتبرها امتداداً لأمنها القومي من جهة ثانية.
بالوقت الذي تظهر دمشق نوعاً من التريث قبل الذهاب لمواجهة عسكرية قد تكون مكلفة بعد ما حصل في مناطق الساحل والسويداء، لذلك ترى أن التعويل على المفاوضات السياسية ومحاولة تحقيق اختراق من خلالها يمكن أن تؤدي لحل يجنب المنطقة الصراع.
رسائل مزدوجة إلى تل أبيب وصراع نفوذ إقليمي
يتجاوز التعاون التركي السوري حدود الداخل، ليحمل رسائل سياسية وعسكرية إلى إسرائيل التي كثّفت من هجماتها الجوية وتوغلاتها البرية على الجنوب السوري، واحتلت مواقع سيطرة ورصد في جبل الشيخ وعلى امتداد حدود الجولان المحتل، وباتت تطالب بمنطقة خالية من السلاح تشبه منطقة نفوذ جيوسياسي لها بسوريا.
وفي هذا الإطار، يرى د. أوغلو أن التحرك الإسرائيلي في الجنوب ليس معزولاً عن القلق المتصاعد من تعاظم الدور التركي في سوريا، موضحاً: “إسرائيل تتحرك في القنيطرة والجولان ودرعا والسويداء، ليس بسبب القيادة الجديدة في دمشق، بل خوفاً من توسع الدور التركي المتصاعد. تدرك تل أبيب أن الأمور فُتحت على مسار جديد، وأن العلاقة بين أنقرة ودمشق لم تعد رمزية أو اقتصادية، بل تقوم على وحدة حال ومصير”.
ويشير الخبير التركي إلى أن التحالف الإقليمي الجديد الذي “بدأت نواته تتشكل بالفعل”، يهدف إلى محاربة الإرهاب وقطع الأذرع الإيرانية في سوريا والعراق ولبنان وفلسطين، لافتاً إلى أن “الملف الغزّي طغى مؤقتاً على الأولويات، لكنه لم يوقف التحركات”.
ويُقرأ هذا التحالف المحتمل على أنه نقطة تحوّل في ميزان القوى الإقليمي، إذ تسعى تركيا والسعودية ومعها عدد من العواصم العربية لإعادة تعريف مفهوم “الشرق الأوسط الجديد”، في مواجهة الرؤية الإسرائيلية الغربية التي تعمل منذ سنوات على هندسة خريطة نفوذ جديدة في المنطقة.
فالتحالف الناشئ يحمل في طيّاته مشروعاً موازياً يقوم على إعادة تمكين الدول المركزية (سوريا، العراق، لبنان) من السيطرة على أراضيها ومقدراتها، بما يعيد التوازن إلى المعادلة الإقليمية بعد عقد من التفكك والوصاية، بالوقت الذي تعرّى مؤخراً الدعم والحماية الغربي بعد ضربات إسرائيل على الدوحة في قطر، وقبلها ضرب إيران لها أيضاً، رغم أن قطر كانت حليفة للطرفين طيلة سنوات.
ويظهر هنا بحسب التحليلات والخبراء رؤية السعودية البارزة بمثل هذا الملف، حيث سعت المملكة إلى توسيع تحالفاتها واعتماد مبدأ التوازن فيها، ودعمت سوريا منذ اليوم الأول للتحرير من النظام البائد بما يؤكد سعيها لتمكين الاستقرار فيها لمواجهة مشاريع الهيمنة والتوسع لأي قوة إقليمية أخرى.
تنويع التسلح: من الاعتماد الروسي إلى الشراكة التقنية مع أنقرة
على المستوى العسكري البحت، يمثل التعاون بين الجيشين التركي والسوري قفزة نوعية في عقيدة التسلح السورية، التي كانت لعقود تعتمد على المنظومات الروسية حصراً.
وبحسب د. أوغلو، فإن المرحلة الجديدة “ستشهد تنويعاً في مصادر التسلح، بحيث يصبح المزيج بين الغربي والتركي هو الطاغي، مع حضور محدود للسلاح الروسي والشرقي لأغراض سياسية أو رمزية”.
ويضيف الخبير أن تركيا، التي تطورت صناعتها الدفاعية بشكل لافت خلال السنوات الأخيرة، تمتلك قدرات إنتاج ذاتي للدبابات والطائرات والمسيّرات والسفن الحربية، ما يجعلها قادرة على تزويد الجيش السوري بأسلحة حديثة تعزز قدراته القتالية وتمنحه استقلالية أكبر عن موسكو.
ويتابع: "أي تحرك سوري لاحقاً، بعد سنوات، على المستوى القتالي أو الدفاعي، سيكون قوياً ومرهوب الجانب بسبب استخدام الأسلحة التركية والغربية، إلى جانب الرمزية الروسية. سوريا ستتحول إلى نموذج جيش جامع لمختلف أنظمة التسلح، وهذا يفرض بالضرورة برامج تدريب ودعم لوجستي وفني موسع".
وتكشف مصادر عسكرية أن دمشق بدأت فعلياً بإرسال وفود ضباط إلى تركيا والسعودية للمشاركة في دورات تدريبية وإعداد نواة لقيادة أركان جديدة “تستند إلى عقيدة محدثة” قوامها الردع الإقليمي والاعتماد الذاتي.
ويرى محللون أن هذا التوجه يعكس رغبة الحكومة الانتقالية في كسر الاحتكار الروسي للسلاح السوري، والانفتاح على نموذج تسليحي أكثر تنوعاً وتكيفاً مع المتغيرات الميدانية.

نحو شرق أوسط جديد بمعادلات مختلفة
ما يجري اليوم بين أنقرة ودمشق لا يمكن وصفه بمجرد “تفاهمات أمنية”، بل هو بداية تحالف استراتيجي قيد التشكل، يمتد أثره من الشمال السوري إلى العراق ولبنان، ويعيد ترتيب أوراق القوى في الإقليم من أنقرة إلى الرياض.
فالمعادلة التي فرضتها التطورات الأخيرة تقول بوضوح إن المنطقة تتجه نحو شرق أوسط جديد، لكن هذه المرة بملامح إقليمية لا غربية، كما يختتم د. مهند حافظ أوغلو بقوله: “دول المنطقة، وعلى رأسها أنقرة ودمشق، تريد شرقاً أوسطاً جديداً مختلفاً، يقوم على المصالح المشتركة والسيادة الوطنية، لا على الإملاءات الخارجية. ولهذا سيكون السلاح والسيادة في يد الدولة فقط”.