تشهد العلاقات السورية–الروسية تحوّلاً جوهرياً منذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، فبعد سنوات من الارتباط الوثيق في سياق الحرب، تدخل دمشق وموسكو اليوم مرحلة جديدة من العلاقات الدبلوماسية والعسكرية، عنوانها إعادة الضبط والتفاوض على أسسٍ مختلفة. الزيارات المتبادلة بين الجانبين تعكس هذا التحول؛ إذ وصل رئيس هيئة الأركان السوري اللواء علي النعسان إلى موسكو لبحث "آليات التنسيق"، فيما تستعد العاصمة الروسية لاستقبال الرئيس السوري أحمد الشرع منتصف الشهر الجاري للقاء الرئيس فلاديمير بوتين، وهذه التطورات تطرح تساؤلات حاسمة حول شكل العلاقة بين البلدين، وحدود التعاون، وموقع سوريا الجديد في خريطة التوازنات الدولية.
من إدارة حرب إلى هندسة استقرار
خلال سنوات الحرب، ارتبطت سوريا بنظامها السابق بروسيا كحليف عسكري وسياسي وفر لها الغطاء الدولي، وأمّن لها قواعد بحرية وجوية على المتوسط، وأبقى خطوط الإمداد مفتوحة.
لكن سقوط النظام غيّر المعادلة، فلم تعد العلاقة تقوم على "الحماية مقابل الولاء"، بل على ضرورة صياغة شراكة جديدة تأخذ بالاعتبار الشرعية الدستورية للسلطة الانتقالية.
هذا ما يوضحه الباحث الروسي ديمتري بريدجيه، خلال حديث مع وكال ستيب نيوز قائلاً: "العلاقة انتقلت من إدارة حرب إلى هندسة استقرار. سوريا لم تحصل حتى الآن على قنوات عملية مع الغرب في ملفات التدريب والتسليح والأمن بسبب العقوبات والاشتراطات السياسية، لذلك يبقى التعاون مع روسيا خياراً عملياً وواقعياً".
ويضيف: "سوريا الجديدة أيضاً وريثة للاتفاقيات السابقة، لكنها تملك حق تحديثها وإعادة ضبطها بما ينسجم مع الشرعية الدستورية الجديدة ومقتضيات السيادة. زيارة الشرع إلى موسكو منتصف الشهر ينبغي أن تُترجم إلى جدول زمني لتحديث الاتفاقيات، وبرامج تدريب احترافية، وتعاون أمني وتكنولوجي يرسخ استقلال القرار الوطني".
وهذا التحليل يضع الأساس لفهم أن العلاقة لم تعد امتداداً لمرحلة الأسد، بل هي بداية لصفحة جديدة، يكون فيها التعاون العسكري والدبلوماسي مشروطاً بتوازن أوضح لمفهوم السيادة السورية
ما بعد لقاء الشرع وبوتين: من التصالح الرمزي إلى الشراكة العملية
التاريخ القريب يثقل كاهل العلاقة بين دمشق وموسكو، فروسيا كانت الداعم الأكبر للأسد خلال الحرب، بينما قوى الثورة السورية ترى أنها مدينة باعتذار وتعويضات، ومع ذلك، فإن زيارة الشرع إلى موسكو تحمل بُعداً رمزياً يتجاوز خلافات الماضي، إذ أنها ستكرّس تحول العلاقة من دعم طرف في حرب أهلية إلى شراكة مع دولة جديدة تسعى للاستقرار.
يقول بريدجيه في هذا السياق: "الشرع لم يكن خصماً شخصياً لبوتين؛ ما كان قائماً هو تباعد في المواقف خلال الحرب. السياسة الروسية تجاه سوريا تغيّرت من تموضع عسكري ثقيل إلى شراكة أمن واستقرار، بينما المصالح الاستراتيجية بقيت عبر القواعد والدور الأمني ومحاربة الإرهاب".
وحول مطالبات بعض الأطراف السورية باعتذار روسي أو دفع تعويضات، يوضح: "ملف المطالبة بالاعتذار أو التعويضات لا يُدار بالشعارات، بل عبر آلية مشتركة قانونية واقتصادية تضع المسؤوليات في إطارها الصحيح وتحوّل الخسائر إلى برامج تنمية وتعافٍ مبكر. المطلوب الآن تفاهم مبادئ، واحترام سيادة سوريا الجديدة، ودعم الانتقال المؤسسي، وتحييد الخلافات القديمة لصالح مستقبل واقعي يضمن المصالح المتبادلة".
وبهذا المعنى، فإن لقاء الشرع وبوتين لن يكون مجرد تصالح رمزي، بل فرصة لوضع خريطة طريق لعلاقة جديدة تحافظ على المصالح الروسية، وتمنح دمشق أدوات لإعادة بناء الدولة.

صفقات السلاح والتعاون الدفاعي: الحاجة والقيود
الجيش السوري بعد الحرب بحاجة لإعادة بناء شاملة، خصوصاً في مجالات الدفاع الجوي وأمن الحدود والتكنولوجيا الحديثة، وفي وقت تفرض العقوبات الغربية المتبقية والهواجس والشروط السياسية قيوداً صارمة على أي تعاون دفاعي، تبقى روسيا الخيار الأبرز أمام دمشق.
يوضح بريدجيه ذلك بقوله: "الاحتمال قائم وبدأت بالفعل خطوات تحضيرية مرتبطة ببناء قدرات الدفاع الجوي، مراقبة الحدود، الاتصالات المحمية، والصيانة والتدريب المتخصص".
ويتابع: "التفاصيل الفنية والأطر الزمنية تخضع لاعتبارات الأمن القومي الروسي والسوري معاً، وستُدار ضمن قنوات مهنية ورقابة مؤسساتية تحمي السيادة وتمنع أي انزلاق إقليمي".
وهذا يعكس إدراك الطرفين لحساسية المرحلة، فسوريا بحاجة لتسليح وتدريب لاستعادة قدراتها الدفاعية، لكن موسكو تسعى لإدارة هذه العملية ضمن ضوابط دقيقة، تجنّبها صدامات إقليمية أو اتهامات بتأجيج سباق تسلح جديد في المنطقة.
القواعد الروسية: منفعة استراتيجية دائمة
منذ عام 2015، مثّلت قاعدتا طرطوس وحميميم حجر الزاوية في الاستراتيجية الروسية بالشرق الأوسط، وهذه القواعد لم تكن مجرد مواقع عسكرية، بل منصات لإبراز النفوذ الروسي في البحر المتوسط وضمان حضور دائم في معادلات الطاقة والأمن.
بريدجيه يوضح الموقف الروسي بعبارات مباشرة: "ستبقى القواعد الروسية في سوريا، فلروسيا منفعة استراتيجية واضحة في المتوسط عبر المرافئ واللوجستيات وأمن خطوط الطاقة ومكافحة الإرهاب، مقابل التزام واضح بالسيادة السورية وحدود المهمة العسكرية".
ويضيف: "دول الجوار ترى في الوجود الروسي عامل توازن يمنع الفراغ ويخفض مخاطر الانفجار، وهو ما يعزز تعاوناً روسياً عربياً يتوسع في الأمن والاقتصاد والنقل والطاقة".
وبهذا يصبح واضحاً أن بقاء روسيا في سوريا ليس موضع شك، لكن الجديد هو أن دمشق باتت تملك مساحة أوسع لإعادة التفاوض حول شروط هذا الوجود، بما يضمن عدم تقويض السيادة الوطنية.
اتجاه البوصلة السورية وتأثير واشنطن
العامل الأميركي يظل حاضراً في معادلة العلاقات السورية–الروسية، فواشنطن تراقب أي تقارب مع موسكو بقلق، خصوصاً إذا كان على حساب ترتيباتها الأمنية أو السياسية في المنطقة، ومع ذلك، تبدو حسابات الشرع أكثر براغماتية.
يشرح بريدجيه هذه المعادلة قائلاً: "الانفتاح الأوسع على روسيا سيزعج واشنطن بلا شك، لكن الدليل القاطع على اتجاه سوريا شرقاً هو ميزان الجدوى، والغرب يربط أي انخراط بحزم عقوبات وشروط سياسية ولا يقدّم أدوات تدريب وتسليح قابلة للتطبيق سريعاً، بينما المعسكر الشرقي يوفّر قنوات تمويل واستثمار وبنى تحتية وتكنولوجيا دفاع وأمن حدود، إلى جانب منصات مؤسساتية فاعلة مثل بريكس وبنك التنمية الجديد ومنظمة شنغهاي".
ويتابع: "يضاف إلى ذلك رغبة تركية وعربية عملية في تنسيق ثلاثي وإقليمي مع موسكو بملفات الطاقة، الموانئ، سلاسل الإمداد، وأمن الحدود، والخلاصة أن التموضع الأكثر عقلانية هو شرقٌ براغماتي ببوابات تواصل مع الغرب حين تنضج الشروط، لكن مع أولوية واضحة لشراكات تمنح سوريا أدوات سيادية الآن لا وعوداً".
وهذا التوصيف يعكس بوضوح أن الخيار السوري لا يقوم على الاصطفاف الأيديولوجي، بل على حسابات المصلحة، من خلال شراكة عملية مع الشرق، مع إبقاء قنوات مفتوحة للغرب حين تتغير الظروف.
شراكة على قاعدة جديدة
العلاقة السورية–الروسية بعد سقوط الأسد تتجاوز فكرة "تحالف قديم يُستعاد"؛ لتصبح إعادة صياغة لشراكة على أسس جديدة، فروسيا لم تعد الطرف الحامي لنظام يواجه عزلة دولية، وسوريا لم تعد الدولة التابعة التي تقبل أي معادلة تُفرض عليها، واليوم يبحث الطرفان عن صيغة متوازنة، موسكو تسعى لتثبيت مصالحها الاستراتيجية في المتوسط وحماية حضورها العسكري والاقتصادي، فيما تسعى دمشق إلى بناء دولة ذات سيادة قادرة على تحديث مؤسساتها العسكرية والأمنية، وإيجاد موقع جديد في النظام الدولي.
وهذه المعادلة ليست سهلة، لكنها قد تمنح سوريا فرصة نادرة لإعادة بناء علاقاتها الخارجية بعيداً عن التبعية، وفي الوقت نفسه تمنح روسيا ضمانة لمصالحها في منطقة لا تزال تتسم بالتقلبات والصراعات.
إعداد: جهاد عبد الله - ستيب نيوز