في لحظة يختلط فيها اليأس بالأمل، أُعلن عن اتفاق للمرحلة الأولى لوقف إطلاق النار في غزة استنادًا إلى ما تُعرِفها الإدارة الأميركية بـ"خطة ترامب" المكوَّنة من عشرين بندًا، وأعاد هذا الإعلان للحياة نبَضًا باهتًا لدى أهل القطاع وفتح نافذة دبلوماسية لم تكن واردة قبل أيام ولكنها نافذة محفوفة بالمخاطر، وتتجه الأنظار الآن إلى القاهرة حيث تتواصل المشاورات النهائية، وإلى واشنطن حيث قال الرئيس ترامب إنه قد يزور مصر خلال يومين لإنهاء صياغة الاتفاق وإضفاء طابع التوقيع الرسمي.
ومع الشعور بالتفاؤل لإنهاء الحرب المستمرة منذ عامين والتي أوقعت آلاف القتلى والجرحى ودمرت قطاع غزة تماماً، وشردت مئات الآلاف عدة مرات بموجات نزوح داخلي، تثار مخاوف من لعب إسرائيلي على تفاصيل ضمن الخطة، ومدى الثقة بالتزامها بالبنود المعلنة عنها.
لماذا يهمّ هذا الاتفاق الآن؟
اتفاق "المرحلة الأولى" يتضمن، بحسب الإعلان، وقفًا لإطلاق النار، وتبادل دفعات من الأسرى والرهائن، وانسحابًا تدريجيًا لقوات إسرائيلية إلى خطوط متّفق عليها، ودخول مساعدات إنسانية واسعة ومستدامة إلى غزة.
الخطة المكوَّنة من 20 بندًا اعتبرَتْها دول ومنظمات دولية خطوة مهمة لإيقاف نزيف الدم، ولاقت ترحيبًا دوليًا واضحًا.
في الوقت نفسه، تُظهر الوقائع أن الإعلان السياسي لا يساوي التطبيق الميداني، فهناك بحسب خبراء ثغرات في الآليات، وخلافات داخلية إسرائيلية، وارتباكات إجرائية على الأرض قد تُضعِف أي نتائج فورية إن لم تُعالج سريعًا.
تحديات التنفيذ
يؤكد أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية الدكتور عبد الحكيم القرالة، خلال حديث مع وكالة ستيب نيوز أن الاتفاق "مكسبًا مهمًا في إطار تحقيق الهدف الأشمل، وهو وقف المجازر والانتهاكات بحق الناس في قطاع غزة"، لكنه يشدِّد على أن هذا "المكسب كبير وخطوة أولى في الاتجاه الصحيح" مع تحذيره من صعوبة التطبيق.
ويضيف: “المراحل الأولى من أي اتفاق تكون محفوفة بالصعوبات والعراقيل... من الضروري اليوم أن يكون هناك التزام جادّ من جميع الأطراف، وبشكل خاص من الجانب الإسرائيلي، الذي اعتاد على نقض العهود والتنصل من الالتزامات، وخصوصًا فيما يتعلق بمسائل الانسحابات وتسليم الأسرى والمحتجزين لدى حركة حماس.”
ويُضيف القرالة تحذيرًا واضحًا: “نجاحه مرهون بتجاوز العراقيل المفتعلة وتذليل العقبات الميدانية والإدارية... والحفاظ على هذا المكسب الكبير الذي تحقق في ظل ما يعانيه قطاع غزة من حرب إبادة وتجويع على مدار عامين خلّفا كارثة إنسانية غير مسبوقة.”
كما يشدد الخبير على أن الآليات المطلوبة من مراقبة دولية متعددة الأطراف إلى قواعد واضحة لفتح المعابر وتقديم المساعدات ليست ترفًا نظريًا، بل ضرورة بقاء.

زيارة ترامب إلى مصر: توقيت سياسي واستراتيجية ضغط
زيارة الرئيس ترامب المعلنة قَبْل التوقيع المتوقّع والتي أعلن أنها قد تتم خلال يومين لها أبعاد سياسية وعملية، فهي ترمي إلى تثبيت توقيع سياسي قوي ومنح الاتفاق غطاءً دوليًا يفوق الوساطات التقليدية، وترامب نفسه ربط بين مبادرته وخطوات عملية على الأرض، فيما ذكرت تقارير أن الزيارة ستحمل معها إدارة ملف الضمانات والضغط على الأطراف لضمان الالتزام، علاوةً على استمرار تقديم ترامب لنفسه على أنه صانع السلام بالعالم.
القرالة يضع الزيارة في إطار الضغط، ويقول: “الزيارة تأتي في إطار دعم جهود السلام... وقد لعب ترامب دورًا بارزًا في الضغط على الحكومة الإسرائيلية لكبح جماح غطرستها... وإجبارها على القبول بالاتفاق رغم التحفظات العديدة حول بعض بنوده.”
كما يرى القرالة أن دور مصر وقطر وتركيا الوسطيّ كان حاسمًا في تقريب وجهات النظر في شرم الشيخ، لكن إضفاء صبغة التنفيذ يحتاج إلى ضمانات دولية أكبر.
محطات سوداء مرت بها المفاوضات
لا يمكن فهم سقف التفاؤل الحاليّ بعيدًا عن سِجل فشل جولات تفاوضية سابقة وعمليات عسكرية طالت مَساحات دبلوماسية، ففي الثالث من سبتمبر الماضي، سجّل التاريخ محاولة إسرائيلية استهدفت اجتماعًا لفريق تفاوضي فلسطيني في الدوحة، ما دفع لردود فعل دولية وأثار تساؤلات عن حدود العمل العسكري خارج مناطق القتال وتأثيره في ثقة الوسطاء والمسارات التفاوضية، وهذه الحوادث تُذكّر بمدى هشاشة أي اتفاقٍ يُبنى على تفاهمٍ ضعيف أو ثقة مفقودة.
السؤال الكبير بعد الإعلان عن الاتفاق هو من يضمن التزام إسرائيل؟
يجيب القرالة بواقعية قائلاً: "الولايات المتحدة تبقى الطرف الأكثر قدرة على تقديم الضمانات الفعلية... فهي الجهة الوحيدة القادرة على ممارسة الضغط الحقيقي لضمان الالتزام بوقف إطلاق النار."
والوقائع السياسية الأخيرة تؤكد ذلك؛ واشنطن مارست ضغوطًا دبلوماسية وعلنية على رئيس الوزراء الإسرائيلي، بما في ذلك رسائل صارمة حول توقيت وقف العمليات وضرورة تسهيل دخول المساعدات، في خطوة اعتبرها محللون ضغطًا غير مسبوق على حكومة تل أبيب.
من الرابح ومن الخاسر؟ قراءة أخلاقية وسياسية
في المشهد الراهن، تقول الروايات الرسمية إن كل طرف يسوق لنجاحه؛ تل أبيب تعتبر الاتفاق خطوة للتخلص من التهديدات وإعادة الأسرى، وحماس تسوّق الصمود والتضحية الشعبية، لكن التحكيم الأخلاقي للكارثة واضح بحسب القرالة.
يقول الخبير: “لا يمكن اعتبار الحرب التي شهدها القطاع حربًا رابحة لأي طرف... المنتصر الحقيقي هو الشعب الفلسطيني الذي صمد في وجه آلة الحرب... الخسائر كانت جسيمة، لكن الكارثة الإنسانية التي أفرزتها الحرب الإسرائيلية تمثل وصمة عار في جبين الشرعية الدولية.”
هدنة أم بداية طريق؟
الاتفاق الحالي وإن مثّل تقدّمًا دبلوماسيًا مهمًا لا يمكن تجاهله يظلّ اختبارًا لمدى استدامة الضمانات، ودرجة الاستعداد الدولي والإقليمي للتدخل بشكل فاعل حين يُخرَق، وزيارة ترامب المرتقبة خلال يومين قد تكون علامة فارقة في تثبيت الاتفاق أو في إظهار هشاشته إذا لم تُترجم التعهدات إلى إجراءات ملموسة على الأرض.
وفي نهاية المطاف، يبقى المعيار البسيط والقاسي واحدًا: هل ستنقذ هذه المرحلة الأولى آلاف الأرواح وتكسر حلقة التجويع والدمار؟ أم أنها ستترك خلفها اتفاقًا مكتوبًا لا ينسجم مع واقع الشوارع والأنقاض؟ الإجابة ستأتي من التنفيذ، ومن قدرة المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة على تحويل الكلمات إلى حماية فعلية للبشر قبل أي اعتبار سياسي.