في مشهد سياسي نادر ومثير للانتباه، زار وفد سوري رسمي يضم وزير الزراعة أمجد بدر، ووزير الطوارئ رائد الصالح، العاصمة الأوكرانية كييف قبل أيام، في أول زيارة من نوعها منذ استئناف العلاقات بين البلدين بعد قطيعة رسمية دامت أكثر من ثلاث سنوات منذ عهد النظام البائد، ولكن المفارقة أن هذه الزيارة جاءت في وقت تتكثف فيه الوفود الروسية إلى دمشق، ما يطرح تساؤلات حول قدرة سوريا على بناء علاقات متوازنة بين خصمين متحاربين: روسيا وأوكرانيا.
زيارة كييف: دلالات ورسائل
وزير الزراعة ووزير الطوارئ السوريان وصلا العاصمة الأوكرانية كييف، في أول زيارة رسمية منذ استئناف العلاقات بين البلدين بعد قطيعة دامت منذ 2022، وكان الرئيسين الأوكراني فلوديمير زيلينسكي ونظيره السوري أحمد الشرع التقيا لأول مرّة على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة وأعلنا عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
هذه الخطوة لم تكن بروتوكولية فحسب، بل حملت رسائل سياسية واقتصادية عميقة، كما يوضح الدكتور منتصر البلبل، الباحث في الشأن الأوكراني والسوري، الذي يرى خلال حديث لوكالة ستيب نيوز، أن الزيارة تمثل "إعادة بناء علاقات دبلوماسية بعد قطيعة، وسعيًا من سوريا الجديدة لتنويع شركائها بعيدًا عن الاعتماد المفرط على بعض الحلفاء التقليديين".
ويضيف البلبل أن كييف عرضت على دمشق مساعدات غذائية ضمن برنامج "Grain from Ukraine"، إلى جانب التعاون في مجالات التكنولوجيا والتعليم والعدالة الانتقالية، ما يمنح سوريا فرصة نادرة لكسب شرعية دولية وتخفيف العزلة السياسية.
وسبق لأوكرانيا أن بادرت بإرسال أطنان من القمح إلى سوريا بعد أسابيع قليلة من سقوط النظام البائد وتشكيل حكومة انتقالية، فاتحةً بذلك ذراعيها لدمشق في علاقة جديدة، وفي محاولة لاستغلال تراجع الدور الروسي الذي دعم نظام الأسد لسنوات ضد قوات المعارضة قبل أن تصل للحكم وتطيح بذلك النظام.
كما أن تقاريراً استخباراتية ظهرت العام الفائت وتحدثت عن علاقة وثيقة بين أوكرانيا وقوات العارضة السورية حينها، مشيرةً إلى أن كييف زودت تلك القوات بتقنيات الطائرات المسيّرة والتي كان لها دور بارز خلال معركة "ردع العدوان" التي انتهت بانتصار الثورة السورية.
ملفات التعاون السوري–الأوكراني
الزيارة فتحت الباب أمام حزمة من الملفات الاستراتيجية، أبرزها، بحسب الخبير: الأمن الغذائي، حيث تمتلك أوكرانيا واحدة من أكبر احتياطات العالم بالقمح والزيوت النباتية وتعد من أبرز الدول المنتجة للموارد الغذائية، إضافة إلى ملف التعليم والبحث العلمي، حيث يمكن أن تقدّم أوكرانيا منح علمية جديدة للطلاب السوريين بما يرفع مستوى التعليم والتدريب السوري بالعديد من المجالات، إلى جانب ملف العدالة ما بعد الصراع، وهو ربما ملف مشترك لبلدين عاشا حرب طويلة، إضافة إلى الشراكة الاقتصادية، والتمثيل الدبلوماسي الكامل، فرغم الحرب التي تعيشها أوكرانيا إلا انها تعوّل على انتهاء هذه "المحنة" لتعود إلى بناء اقتصادها بشكل أقوى لا سيما إذا جرى التوافق على ضمها إلى الاتحاد الأوروبي.
في المقابل: موسكو تراقب بقلق
في الوقت الذي كانت فيه كييف تستقبل الوفد السوري، كانت موسكو ترسل وفودًا متعددة إلى دمشق بينها العسكرية والسياسية والاقتصادية، في محاولة للحفاظ على نفوذها الاستراتيجي.
لكن هذا التقارب السوري–الأوكراني لا يخلو من المخاطر، كما يحذر الدكتور البلبل، الذي يشير إلى أن "أوكرانيا قد تسعى إلى تشجيع سوريا على تقليص الوجود الروسي، وهو ما تعتبره موسكو تهديدًا مباشرًا لنفوذها".
ويضيف أن روسيا قد ترى في التعاون الاقتصادي مع كييف محاولة لتقويض دورها في إعادة إعمار سوريا، خاصة إذا بدأت دمشق تميل نحو شراكات استراتيجية مع أوكرانيا في مجالات الطاقة أو الزراعة.
وكانت العلاقة الجديدة بين سوريا وروسيا بدأت تتحسن لا سيما على إثر زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى موسكو ولقائه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والتأكيد على عمق العلاقات بين البلدين وتجاوز مراحل الخلاف السياسي والعسكري.
هل تنجح دمشق في التوازن؟
رغم هذه التحديات، يرى البلبل أن دمشق تمتلك فرصة نادرة لبناء سياسة خارجية أكثر براغماتية، تقوم على التوازن لا القطيعة، ويشرح ذلك بقوله: "الإدارة السورية الجديدة لا تنظر إلى أوكرانيا كبديل لروسيا، بل كشريك مكمل. ومن خلال هذا التوازن، يمكن لسوريا أن تنوّع مصادر الدعم وتستخدم التقارب مع كييف كورقة تفاوض مع موسكو".
اختبار البراغماتية السورية
زيارة الوفد السوري إلى كييف ليست مجرد حدث دبلوماسي، بل اختبار حقيقي لقدرة دمشق على إعادة صياغة علاقاتها الخارجية في عالم متعدد الأقطاب، وبينما تراقب موسكو بقلق وتحاول بناء الثقة مع السلطة السورية الجديدة، وتفتح كييف أبوابها، يبقى نجاح سوريا في هذا التوازن مرهونًا بمدى براعة قيادتها الجديدة في إدارة لعبة المصالح دون السقوط في فخ الاستقطاب.
إعداد: جهاد عبد الله - ستيب نيوز