شهدت الساحة الإقليمية إعلانًا لافتًا هذا الشهر مع عودة المناورات البحرية المشتركة بين مصر وتركيا، تحت مسمى "بحر الصداقة"، بعد توقف دام أكثر من 12 عامًا. هذه التدريبات، التي من المقرر أن تجري بين 22 و26 سبتمبر/أيلول في شرق المتوسط، تحمل دلالات سياسية وعسكرية تتجاوز الطابع التدريبي البحت، لتضع نفسها في قلب معادلات القوة الإقليمية التي تشهد إعادة تشكيل متسارعة.
عودة بعد قطيعة طويلة
منذ عام 2013، توقفت مناورات "بحر الصداقة" التي كانت قد بدأت في 2009 واستمرت أربع سنوات متتالية، والانقطاع الطويل ارتبط بتوترات سياسية حادة بين القاهرة وأنقرة، على خلفية الخلافات حول قضايا داخلية وإقليمية، لكن السنوات الأخيرة شهدت مسارًا تدريجيًا للتقارب، توّج بزيارات متبادلة على مستوى القمة، وبتطور التعاون الاقتصادي والدبلوماسي.
وبحسب وزارة الدفاع التركية، فإن المناورات الحالية ستشهد مشاركة واسعة تشمل فرقاطات وزوارق هجومية وغواصة تركية، إضافة إلى طائرات مقاتلة من طراز "إف-16"، إلى جانب وحدات بحرية مصرية بارزة مثل السفينتين "تحيا مصر" و"فؤاد ذكري" اللتين ستزوران الموانئ التركية ضمن جدول المناورة.
رسائل سياسية وعسكرية
يرى الباحث والمستشار السياسي د. باسل الحاج جاسم، خلال حديث لوكالة ستيب نيوز، أن المناورات بعد قطيعة دامت أكثر من عقد، تحمل رسائل واضحة.
ويقول: “هي تعكس تطوراً ملموساً في مسار التقارب بين أنقرة والقاهرة، وتظهر استعداد الطرفين لتجاوز الخلافات السابقة والتركيز على المصالح الاستراتيجية المشتركة. كما تأتي هذه المناورات في سياق إقليمي محتدم، لتبرز رغبة البلدين في تأكيد حضورهما كقوتين محوريتين في شرق المتوسط، لا سيما في ملفات الطاقة والأمن البحري.”
هذا التحليل ينسجم مع ما يراه خبراء عسكريون بأن التدريبات البحرية المشتركة لا تُقاس فقط بمستواها العملياتي، بل بقدرتها على بناء الثقة وتطوير "القابلية للعمل المشترك"، وهي إشارة ذات ثقل في منطقة متشابكة المصالح كشرق المتوسط.
هل هناك تحالف غير معلن ضد إسرائيل؟
التقارب بين القاهرة وأنقرة لم يترجم حتى اللحظة إلى تحالف رسمي، لكن د. الحاج جاسم يشير إلى أن الخطوات المتسارعة في التعاون العسكري والدبلوماسي "توحي بوجود تفاهمات استراتيجية ضمنية".
ويضيف: “في ظل التصعيد الإسرائيلي المستمر في غزة وامتداد تأثيره إلى الإقليم، قد يُقرأ هذا التقارب كرسالة غير مباشرة لإسرائيل بأن هناك أطرافاً إقليمية كبرى تعيد تموضعها وتنسيق جهودها، بما يعكس رفضاً للسياسات الأحادية، واستعداداً لإحداث توازن في معادلات القوة بالمنطقة.”
التصعيد الإسرائيلي الأخير في غزة، وما تبعه من ضربات أثارت غضبًا واسعًا في المنطقة، جعل دولًا مركزية مثل مصر وتركيا أمام اختبار في كيفية الرد. ورغم أن الرسالة ليست مواجهة مباشرة، إلا أن توقيت المناورات يوحي برغبة الطرفين في إظهار بدائل قوة وتحالفات قادرة على موازنة التفرد الإسرائيلي.

دلالة التوقيت
لا يمكن فصل المناورات عن التوقيت الإقليمي المضطرب، فإلى جانب التصعيد في غزة، شهدت المنطقة حادثة "الدوحة" في 11 سبتمبر/أيلول التي وضعت أمن الخليج على المحك، تبعها بأيام توقيع اتفاقية دفاعية استراتيجية بين السعودية وباكستان في 17 سبتمبر/أيلول. الاتفاق نص على أن أي عدوان على أحد الطرفين يعد عدوانًا على الآخر، في صيغة تشبه التحالفات الدفاعية الكلاسيكية.
في هذا السياق، يؤكد د. الحاج جاسم أن الرسالة الأبرز من التوقيت هي أن "الدول ذات الثقل في المنطقة لم تعد راغبة في الاكتفاء بدور المتفرج، بل تسعى لترسيخ شراكات جديدة تفرض توازناً في مواجهة المحاور التقليدية".
وهو ما يعني أن القاهرة وأنقرة، عبر هذه المناورات، ترسلان إشارة بأنهما جزء من ديناميكية أوسع تعيد رسم شبكة التحالفات الإقليمية.
نحو تحالف إسلامي جديد؟
إحدى أبرز القراءات المثارة هي إمكانية ولادة "تحالف إسلامي" يضم مصر وتركيا من جهة، والسعودية وباكستان من جهة أخرى. مثل هذا التكتل، إن تبلور، سيكون له وزن استراتيجي هائل في موازين القوى الإقليمية.
ويقول د. الحاج جاسم: "الفكرة ليست بعيدة عن الواقع، خاصة في ظل مؤشرات على تقارب في الرؤى السياسية والاقتصادية بين هذه الدول. مصر وتركيا، رغم الخلافات والاختلافات السابقة، تمتلكان مقومات استراتيجية وعسكرية كبيرة، فيما تعتبر السعودية وباكستان طرفين فاعلين في الأمن الإقليمي والدفاع الإسلامي المشترك".
ويضيف: “في حال نجحت هذه الدول في بناء تحالف قائم على المصالح المشتركة وليس الأيديولوجيا، فإن موازين القوى في الشرق الأوسط قد تشهد تحولاً جذرياً، لا سيما في ظل تراجع الدور الأميركي النسبي وبروز قوى جديدة كالصين وروسيا كلاعبين مؤثرين في المعادلات الإقليمية.”

أبعاد أبعد من المناورات
رغم الطابع التدريبي المعلن للمناورات، فإن السياقات المحيطة بها تجعلها جزءًا من إعادة توزيع الأدوار في الشرق الأوسط. فمصر التي لطالما سعت للحفاظ على موقعها كقوة إقليمية رئيسية، وتركيا التي وسعت حضورها العسكري والدبلوماسي من ليبيا إلى القوقاز، تلتقيان اليوم في منطقة شديدة الحساسية، حيث ملفات الغاز، وترسيم الحدود البحرية، والصراعات المفتوحة مع أطراف مثل اليونان وقبرص وإسرائيل.
هذا التلاقي قد يفتح الباب أمام سيناريوهات أبعد من مجرد تدريبات بحرية، وربما يؤسس لشراكة مستدامة، خاصة إذا ترافقت مع مبادرات أوسع تشمل التعاون الاقتصادي ومشاريع البنية التحتية العابرة للحدود.
وتأتي مناورات "بحر الصداقة" المصرية–التركية كأكثر من مجرد تدريبات عسكرية؛ بل هي إعلان عن عودة محورين إقليميين إلى الساحة بتنسيق عملي، ورسالة بأن زمن الانكفاء قد انتهى. وبينما تتسارع الأحداث من غزة إلى الخليج، ومن أنقرة إلى إسلام آباد، تبدو المنطقة مقبلة على مرحلة جديدة من إعادة هندسة التحالفات، قد تغيّر ملامح التوازنات الاستراتيجية في الشرق الأوسط.