أعاد تحذير الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول مخاطر الباراسيتامول للحامل إشعال نقاش علمي وإعلامي حول أشهر دواء خافض للحرارة ومسكن للألم، بينما دعا مسؤولون في إدارة البيت الأبيض الحوامل إلى تجنّب تناول "تايلينول" (أسيتامينوفين/باراسيتامول) تجنبًا لما وصفوه بزيادة محتملة في مخاطر التوحّد، وردّت منظمات طبية وهيئات تنظيمية كبرى بأن الأدلة غير قاطعة وأن الإرشادات السريرية لم تتغير، فاستخدام الدواء عند الحاجة وبأدنى جرعة ممكنة لا يزال موصى به.
في هذا التقرير نقدّم سرداً تاريخياً للدواء، وشرحاً لمسلكية عمله، وجرعاته، وأعراضه الجانبية، والجدل السياسي الأخير.
1. لمحة تاريخية
الباراسيتامول (Paracetamol / Acetaminophen) ظهر أواخر القرن التاسع عشر كمشتق نظيف نسبياً من مركبات الأنيلين، وفرض نفسه خلال القرن العشرين كخيار آمن لمعالجة الحمى والآلام الخفيفة إلى المتوسطة، لا سيما في حالات الحمل حيث تُستبعد أنواع أخرى من المسكنات أحيانًا بسبب مخاطرها على الجنين.
بمرور السنوات صار متاحًا تجارياً تحت أسماء عدة، وأكثرها شهرة في الولايات المتحدة "تايلينول".
2. كيف يعمل ومتى يُستخدم؟ (دواعي الاستخدام والجرعات)
ينتج فعالية الباراسيتامول عبر تأثير مركزي على مسارات إنتاج البروستاغلاندين واستهداف إشارات الألم والحرارة في الجهاز العصبي المركزي، وإن ظلّ بعض الجوانب الميكانيكية غير مفهومة تمامًا.
يُستخدم كخافض حرارة ومسكن للآلام (صداع، آلام عضلية، آلام الحيض، آلام خفيفة بعد إجراءات بسيطة).
جرعة البالغين الشائعة: 500–1000 ملغ كل 4–6 ساعات عند الحاجة، ولا تتجاوز 3–4 غرامات في اليوم بحسب توصيات الصانع والهيئات الصحية.
للحامل: توصي الهيئات الطبية باستخدام أدنى جرعة فعّالة لأقصر وقت ممكن والتشاور مع مقدم الرعاية عند الحاجة.
3. الأعراض والآثار الجانبية المعروفة
الباراسيتامول آمن عند الاستخدام المقيّد وفق الجرعات الموصى بها، لكن حملات التوعية تذكّر بخطورة الجرعة الزائدة بسبب السُمّية الكبديّة الحادة.
نادرًا ما تحدث تفاعلات تحسسية أو طفح جلدي خطير، وخلال الحمل، لم تثبت دراسات قوية علاقة سببّية بين الاستخدام العرضي والآثار العصبية عند الأطفال، لكن أبحاثاً رصدية أشارت إلى ارتباطات إحصائية في بعض الحالات ما أثار الاهتمام العلمي.

4. ماذا تقول الأبحاث؟
أ. دراسات رصدية وربطات إحصائية
عدة مراجعات ومنشورات رصدية لاحظت ارتباطات بين استخدام الباراسيتامول أثناء الحمل ومعدلات أعلى نسبيًا من تشخيصات اضطراب طيف التوحّد (ASD) وفرط الحركة (ADHD).
هذه الدراسات قيّمت بيانات اعتمادًا على تقارير الأمهات أو سجلات صرف الأدوية، وبيّنت أن الخطر — إن وُجد — صغير نسبيًا ومَعدّلاته متباينة بين العينات.
ب. أدلة أقوى— مقارنة الأشقاء (Sibling analyses)
الدراسة السويدية الكبيرة المنشورة في JAMA (2024) استخدمت تصميم مقارنة بين الأشقاء للتحكم في العوامل العائلية والجينية، وخلصت إلى أنه بعد هذه الضوابط لم يعد هناك دليل يُثبت زيادة خطر التوحّد أو ADHD مع التعرض قبل الولادة للباراسيتامول، ما يشير إلى أن الارتباطات في نماذج أبسط قد تكون ناتجة عن عوامل مشتركة وليس السبب الدوائي نفسه، وهذه الورقة تُعدّ من الدلائل الأكثر وزنًا حتى الآن.
وفي حديث لوكالة ستيب نيوز، قال الدكتور فهد الخضيري، كبير علماء الأبحاث في مستشفى الملك فيصل: "الباراسيتامول كان ولازال يعتبر من أكثر المسكنات استخداماً وأمناً من حيث عدم وجود اضرار جانبية".
وأضاف: "هذا الدواء هو الأكثر انتشاراً بين المرضى وكل الفئات. ولكن هذه الدراسات الجديدة التي ربطته بالتوحّد هي غير كافية إلى الآن".
مشيراً إلى أن "تلك الدراسات تعتبر ذلك دليلاً من ضمن بعض الأدلة والتي تشير إلى أنه اتحاد عوامل ولي سبباً مباشراً".

ج. آليات بيولوجية مقترحة (لم تُثبت بعد)
تجارب حيوانية وبحوث مختبرية طرحت فرضيات حول تأثير مستقلبات الباراسيتامول على الإجهاد التأكسدي، وعلى إشارات البروستاغلاندين، وربما على مسارات عصبية متخصصة خلال نمو الدماغ الجنيني.
وهذه نتائج أولية تتطلب ترسيخًا في أدلة بشرية وبآليات بيولوجية قابلة للاستنساخ.
5. الموقف الرسمي عقب الجدل الأخير
في 22 سبتمبر 2025 شهدت الساحة تصريحًا من البيت الأبيض دعا فيه لتقليل استخدام الباراسيتامول خلال الحمل، وهو ما رافقه إعلان إدارة الغذاء والدواء (FDA) ببدء إجراءات لتعديل وسم المنتج وإرسال تنبيه للأطباء حول الأدلة المتراكمة.
وردت منظمات طبية كبرى منها الكلية الأمريكية لأمراض النساء والتوليد (ACOG) وأكدت استمرار موقفها الداعم لاستخدام الأستامينوفين عند الحاجة وبحذر، بينما قالت وكالة الأدوية الأوروبية (EMA) ووكالات بريطانية إن التوصيات في الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة لم تتغير وأن استخدام الباراسيتامول أثناء الحمل يظل مقبولًا وفق الإرشادات.
من جانبها الخبرة الدولية دعت إلى توخي الحذر في نقل الرسائل وضرورة عدم خلق هلع قد يؤدي لرفض علاج الحمى — وهو عامل قد يضر بالجنين أكثر من دواء يُستخدم بشكل قصير ومحدود.
وصرح الناطق باسم منظمة الصحة العالمية طارق غاساريفيتش خلال مؤتمر صحفي دوري، ردا على سؤال حول تصريحات الرئيس الأميركي، أن "بعض الدراسات القائمة على الملاحظة أشارت إلى وجود ارتباط محتمل بين التعرض للباراسيتامول قبل الولادة والتوحد، لكن الأدلة لا تزال غير متسقة".
وأضاف: "لم تثبت العديد من الدراسات وجود مثل هذه العلاقة"، داعيا إلى "الحذر قبل الاستنتاج بوجود علاقة سببية" بين الباراسيتامول والتوحد.
كما رفض وزير الصحة البريطاني ويس ستريتينغ، تصريحات ترامب، وقال: "لا يجب الانتباه إطلاقا لما يقوله عن الطب".
وأضاف الوزير البريطاني في تصريحات تلفزيونية: "أنا أثق بالأطباء أكثر من الرئيس ترامب في هذا الشأن، يجب أن أكون واضحا: لا توجد أي دلالات تربط استخدام النساء الحوامل للباراسيتامول بالتوحد لدى أطفالهن".

كما قال الطبيب المسؤول في الوكالة الدوائية الأوروبية ستيفن تريستروب: "لم نجد أي دليل يربط تناول الباراسيتامول أثناء الحمل بالتوحد لدى الأطفال".
وأكدت إدارة المنتجات العلاجية في أستراليا، أن الباراسيتامول آمن للاستخدام أثناء الحمل، مشيرة إلى أن "الأطباء والعلماء في أنحاء العالم يرفضون الادعاءات التي تربط الباراسيتامول بالتوحد".
6. أثر التصريحات السياسية على الصحة العامة
تصريحات سياسية مبسطة يمكن أن تُحدث ارتباكًا جماهيريًا وتدفع بعض الحوامل إلى الامتناع عن علاج الحمى أو تناول بدائل قد تكون أقل أمانًا.
والمجتمع العلمي يكرّر ضرورة التمييز بين "ارتباط إحصائي" و"علاقة سببية"، ويشدد على أن الأدلة الحالية لا تُثبت أن الباراسيتامول يسبب التوحّد عند استعماله بصورة مناسبة خلال الحمل.
ونقل الخبر يجب أن يتضمن مواقف الهيئات العلمية ويشجّع الحوامل على التشاور مع الطبيب قبل اتخاذ قرارات دوائية.
مراجع ومصادر علمية:
ACOG — Acetaminophen in Pregnancy (2025)