كتب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منشورًا قصيرًا على منصة تروث سوشال، لكنه كان كافيًا لإشعال أزمة جديدة في العلاقات التجارية بين واشنطن وبكين:
"أعتقد أن امتناع الصين عمدًا عن شراء فول الصويا منّا، والتسبب في صعوبات لمزارعينا، يُعدّ عملًا عدائيًا اقتصاديًا. ندرس إنهاء التعاملات التجارية مع الصين المتعلقة بزيت الطهي وغيره من الجوانب التجارية. يمكننا إنتاجه بأنفسنا، ولسنا بحاجة إلى شرائه منهم."
لم يكن هذا مجرد غضبٍ عابر من ترامب؛ بل فتح جبهة جديدة في حرب اقتصادية لم تهدأ أصلًا — وهذه المرة ليست في مجال الرقائق الإلكترونية أو المعادن النادرة، بل في فول الصويا، تلك الحبة الصغيرة التي أصبحت رمزًا لمعركة النفوذ بين أكبر اقتصادين في العالم.
الحقول تحت الضغط
في قلب الولايات الزراعية الأمريكية، يعيش مزارعو فول الصويا حالة من الذعر وهم يحصدون محصولًا وفيرًا في غياب أكبر زبون لهم: الصين.
يقول المزارع رون كيندريد، الذي يزرع 1700 فدان من الذرة وفول الصويا في ولاية إلينوي، لصحيفة وول ستريت جورنال:
"سنشهد انهيارًا اقتصاديًا هائلًا إذا لم نتوصل إلى اتفاق مع الصين قريبًا... لا يبدو أن هناك أي استعجال من جانبهم، بل نحن من نشعر بالاستعجال."
كيندريد، الذي أنهى نصف موسم الحصاد فقط، باع نحو 40% من محصوله بينما تبقى 60% معلّقة بالمجهول، إذ تتراجع الأسعار في منطقته يومًا بعد يوم.
ارتفاع تكاليف المعدات والأسمدة، إلى جانب وفرة العرض من الذرة وفول الصويا، خلق ضغطًا خانقًا على المزارعين. وقد اضطر الكونغرس في ديسمبر الماضي لإقرار خطة إنقاذ بقيمة 10 مليارات دولار لدعمهم، بينما تدرس إدارة ترامب الآن تخصيص حزمة إضافية تتراوح بين 10 و14 مليار دولار لتخفيف آثار الحرب التجارية.
وقال ترامب من البيت الأبيض:
"سنتخذ بعض الإجراءات الزراعية هذا الأسبوع لمساعدة المزارعين على مواجهة خسارة الصادرات إلى الصين."
ومن المقرر أن يلتقي لاحقًا بوزيرة الزراعة بروك رولينز لاتخاذ قرار نهائي حول مصادر تمويل الخطة الجديدة، التي يُرجح أن تعتمد على عوائد الرسوم الجمركية المفروضة على الصين.
الزبون الذي غاب
منذ أشهر، لم تحجز الصين أي مشتريات من فول الصويا الأمريكي، وهو ما جعل هذه البذور سلاحًا فعالًا في حرب بكين التجارية مع واشنطن.
فمن يناير حتى أغسطس من هذا العام، اشترى المشترون الصينيون ما يزيد قليلًا عن 200 مليون بوشل من فول الصويا الأمريكي، مقارنةً بنحو مليار بوشل في الفترة نفسها من العام الماضي.
كلمة "بوشل" (Bushel) هي وحدة قياس حجم تُستخدم أساسًا في الزراعة في الولايات المتحدة وكندا، لقياس الحبوب والبذور والفواكه الجافة مثل القمح، الذرة، وفول الصويا.
القيمة التقريبية:
بوشل فول الصويا ≈ 27.2 كيلوغرام
الصين كانت تستحوذ على أكثر من نصف صادرات فول الصويا الأمريكية التي بلغت قيمتها 24.5 مليار دولار سنويًا، وغالبية هذه الكميات تُستخدم لإنتاج علف الحيوانات. لكن بكين اتجهت مؤخرًا نحو أمريكا الجنوبية، خصوصًا البرازيل والأرجنتين، اللتين أصبحتا المورّدين الأساسيين للسوق الصينية.
بحث عن أسواق بديلة
في محاولة يائسة لتقليل الاعتماد على السوق الصينية، سافر كيندريد ومزارعون آخرون إلى فيتنام والفلبين لإقناع مربي الماشية هناك بشراء فول الصويا الأمريكي. يقول كيندريد:
"لا يمكننا استبدال تلك السوق بين عشية وضحاها، لكننا حققنا بعض النجاحات في السنوات الأخيرة."
ورغم ارتفاع مشتريات دول مثل فيتنام ومصر وبنغلاديش من فول الصويا الأمريكي، إلا أن ذلك لا يعوض غياب السوق الصينية الهائلة، التي ظلت لعقود شريانًا رئيسيًا للاقتصاد الزراعي الأمريكي.
بين الزراعة والسياسة
الصين من جانبها تتابع بهدوء. لم تُعلن خطوات عدائية مباشرة، لكنها تعرف أن إبطاء مشتريات فول الصويا يعني الضغط على القاعدة الريفية التي تُشكّل أحد أهم قواعد ترامب الانتخابية.
أما الرئيس الأمريكي، الذي يستعد لمعركة الانتخابات النصفية ، فيحاول تحويل الأزمة إلى رسالة داخلية مفادها أن واشنطن لن تُبتزّ بعد اليوم — لا بفول الصويا، ولا بزيت الطهي.
وهكذا، تبقى هذه البذرة الصغيرة — التي كانت في الأصل غذاءً للحيوانات — وقودًا لصراعٍ أكبر على النفوذ والغذاء والسيطرة الاقتصادية في القرن الحادي والعشرين.