تشكل زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى موسكو ولقاؤه مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين أول تواصل مباشر على مستوى القمة بين البلدين منذ سقوط نظام بشار الأسد، لتفتح الباب أمام مرحلة جديدة من العلاقات تُبنى على معادلات مغايرة لما كان عليه الحال طوال عقدين من الزمن.
المشهد الإعلامي والدبلوماسي حول الزيارة حمل إشارات مزدوجة، من دفء رسمي أمام الكاميرات، وتفاوض فعلي على مصير الملفات الاستراتيجية في الغرف المغلقة.
تحوّل في منطق العلاقة — من الوصاية إلى الشراكة
على المستوى الرمزي، تمثل زيارة الشرع طيّ صفحة من العداء المباشر بين فصائل المعارضة السابقة التي تولت الحكم اليوم وأبرز داعمي نظام الأسد لعقود، وفتحت باباً لإعادة تعريف العلاقات التي كانت مبنية على دعم موسكو لبشار الأسد طوال سنوات الحرب.
الشرع تحدث عن رغبة في "إعادة تعريف" العلاقات واحترام الاتفاقات السابقة مع روسيا، في وقت يبدو فيه أن دمشق الجديدة تبحث عن إقامة توازن بين الحفاظ على سيادتها وإقامة شراكات عملية مع قوى إقليمية ودولية.
وفي هذا السياق، يقول د. نصر يوسف، خبير العلاقات الدولية والشأن الروسي، الذي التقى الرئيس الشرع خلال اجتماعه بالجالية السورية في روسيا، في حديث مع وكالة ستيب نيوز: إن الزيارة الأخيرة "تُعدّ نقطة انطلاق جديدة في مسار العلاقات السورية-الروسية، إذ تُبنى الآن على أسس من الاحترام المتبادل والمصلحة المشتركة بدلاً من نمط حاكم ومحكوم الذي ساد في السابق".
ويشير يوسف إلى أن القيادة السورية الجديدة "تدرك أهمية الحفاظ على علاقات طيبة مع الدول الفاعلة، وروسيا تُعد قوة عظمى بما في ذلك مقعدها الدائم في مجلس الأمن، وما لذلك من قدرة على تعطيل أو إفشال أي مشروع قرار قد يضر بالمصالح السورية".
ويضيف أن تحسين العلاقات مع موسكو قد يسهم في دعم ملفات سورية حساسة على الصعيد الدولي، خصوصًا في ظل سعي الحكومة الانتقالية إلى استعادة الشرعية السياسية وإعادة الانخراط في النظام الدولي.
الأبعاد السياسية والدبلوماسية — تفاهمات بحسابات دقيقة
تحمل الزيارة رسائل متعددة: من جهة، رغبة دمشق في تأكيد استقلال قرارها بعد سقوط النظام السابق، ومن جهة أخرى حرصها على عدم خسارة داعم تاريخي ما زال يمتلك أوراق ضغط في مجلس الأمن وفي مسار إعادة الإعمار.
مصادر مطّلعة تحدثت عن أن المباحثات تناولت ملفات حساسة، منها موقف روسيا من إمكانية تسليم شخصيات متهمة بارتكاب جرائم حرب أو تسهيل ملاحقتها أمام القضاء الدولي.
وفي هذا السياق، يرى د. يوسف أن تسليم شخصيات كبرى مثل رأس النظام السابق مستبعد حالياً، لكنه لا يستبعد "إمكانية تسليم أفراد تُثبت ملفاتهم الجنائية قضائيًا بشكل قاطع"، مشددًا على أن الموقف السوري "لن يفرض خيار التسليم كشرط لاستمرار العلاقات الطيبة، وأن الملف سيُعالج تدريجياً وبالهدوء".
وبذلك تبدو موسكو ودمشق في طور بناء صيغة جديدة تُوازن بين العدالة الدولية ومتطلبات الاستقرار السياسي الداخلي، دون التضحية بالمصالح الاستراتيجية المشتركة.
البعد العسكري — تحديث جيش أنهكته الحرب
في البعد العسكري، يبرز ملف القواعد الروسية في طرطوس وحميميم كأحد أكثر الملفات حساسية، فروسيا تريد الاحتفاظ بوجودها العسكري في شرق المتوسط، لكن واقع تراجع قدراتها المواردية بسبب التزامها بملفات أخرى (مثل أوكرانيا) يغيّر قواعد التفاوض، فروسيا قد تسعى إلى بقاء شكلي أو محدد لمصالحها مقابل امتيازات اقتصادية وسياسية وحقوق استثمارية في إعادة الإعمار، بينما تسعى دمشق إلى ضبطه قانونيًا وزمنيًا بما لا ينتقص من السيادة الوطنية.
يقول د. يوسف إن "الجيش السوري ظلّ مبنياً إلى حدّ كبير على منظومات وتسليح يعودان إلى الحقبة السوفياتية، وأن العديد من الأسلحة بحاجة إلى صيانة وقطع غيار وإعادة تأهيل بعد سنوات الحرب والهجمات الإسرائيلية".
ويضيف أن الأوضاع المالية الراهنة — خزينة مفلسة ودولة متضررة — تحدّ من قدرة سوريا على شراء منظومات جديدة، لذا "تُعدّ روسيا شريكاً محورياً في توفير ما يلزم من دعم فني وعسكري لإعادة إحياء القوات المسلحة السورية".
كما لفت إلى أن منظومات الدفاع الجوي "مهترئة وتتطلب مبالغ كبيرة لإعادة تأهيلها"، موضحًا أن "التهديد الجوي الأبرز ما يزال قائماً من جانب إسرائيل".
ويعتقد أن وجود دفاعات جوية فعالة حول القاعدتين الروسيتين في سوريا سيسهم في تغطية المجال الجوي الوطني، خصوصًا في ظل تعقّد الخلافات بين موسكو ودول الغرب.
وهذه الرؤية تتقاطع مع حسابات الكرملين الذي يدرك أن أي انسحاب كامل من سوريا سيُضعف موقعه الجيوسياسي في البحر المتوسط، في وقت يبحث فيه عن تقليص كلفة الانتشار دون خسارة أوراق النفوذ.

الاقتصاد وإعادة الإعمار — المصالح قبل الشعارات
الشق الاقتصادي كان حاضرًا بقوة خلال الزيارة، إذ ناقش الجانبان فرص التعاون في مجالات الطاقة والبنية التحتية والنقل والمرافئ.
وإن إعادة إعمار سوريا ستكون سوقاً ضخماً ومغرٍ للاستثمارات — طرق، موانئ، شبكات طاقة وغاز — وهذا ما يجعل من روسيا فاعلاً مهماً إن دخلت بقوة عبر عقود إعادة الإعمار أو عبر شركاتها المرتبطة بالدولة.
ويشير د. يوسف إلى أن "الزيارات المتبادلة على مستوى وزيري الخارجية والدفاع، ثم زيارة نائب رئيس مجلس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك، تمثّل مؤشراً إلى أن الملفات الاقتصادية كانت حاضرة على طاولة النقاش، وأن هناك مشاريع قد تفيد الطرفين وتُسهم في إعادة بناء البنية التحتية السورية".
ويرى خبراء اقتصاديون أن موسكو تبحث عن حصة مضمونة في مشاريع إعادة الإعمار، خصوصاً في الموانئ، والنفط، والطاقة الكهربائية، بينما تسعى دمشق للحصول على قروض واستثمارات بشروط ميسرة.
لكن واقع العقوبات الغربية قد يدفع الطرفين إلى اعتماد صيغ شراكة مرنة مثل الشركات المشتركة أو عقود الخدمات طويلة الأجل بدلاً من التمويل المباشر.
وفي السياق ذاته، أشار د. يوسف إلى أن استعادة الأموال السورية المنهوبة من قبل عائلة الأسد أو ضباط النظام السابق تعتمد بالأساس على قدرة هيئات الرقابة والتفتيش السورية على إعداد ملفات مدعّمة بأدلة لا تقبل الطعن، موضحاً أن "الاتهامات بدون أدلة قاطعة تُصعّب عملية الاسترداد، بينما الملفات المحكمة تُسهّلها"، وهو ملف آخر ذو بعد اقتصادي مهم.
واقعية جديدة ومصالح متشابكة
في ضوء التوازنات الراهنة، تبدو موسكو حريصة على الحفاظ على موطئ قدم استراتيجي دون الغرق في أعباء مالية أو سياسية إضافية، بينما تحاول دمشق الجديدة رسم سياسة خارجية أكثر استقلالية.
ومع ذلك، تبقى الشراكة بين الطرفين ضرورية في الملفات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية، على الأقل في المرحلة الانتقالية الحالية.
الزيارة — وفق مصادر روسية — لم تكن بروتوكولية فحسب، بل حملت نقاشات معمّقة حول إعادة تعريف العلاقة من "رعاية" إلى "تعاون متكافئ"، بما يفتح الباب أمام مرحلة من التوازن الحذر بين شريك استراتيجي قوي ودولة خارجة من حرب طويلة.
بين التاريخ والمستقبل
يمكن القول إن زيارة أحمد الشرع إلى موسكو مثّلت نقطة انعطاف في تاريخ العلاقات السورية-الروسية، من علاقة الهيمنة إلى علاقة المصالح.
لكن مستقبل هذه الشراكة سيُختبر في ثلاثة ميادين: السياسة، حيث يتعيّن على موسكو قبول واقع سوريا الجديدة؛ والعسكر، حيث تحتاج دمشق إلى تحديث قدراتها دون الارتهان؛ والاقتصاد، حيث سيُحدد الاستثمار المشترك من سيملك مفاتيح النفوذ في مرحلة ما بعد الحرب.
وكما لخّص د. نصر يوسف، فإن "العلاقة بين دمشق وموسكو اليوم ليست علاقة تبعية، بل علاقة مصالح متبادلة تُبنى على الوعي السياسي الجديد والحاجة المشتركة للاستقرار".
إعداد: جهاد عبد الله - ستيب نيوز