على وقع اشتباكات وتوترات ميدانية في حلب مؤخراً، عاد الملف الكردي السوري إلى واجهة المشهد السياسي، وسط تساؤلات عن مصير اتفاق 10 آذار الذي رعته واشنطن بهدف دمج "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) ضمن هيكل الدولة السورية الانتقالية، وما تبع ذلك من جولات تفاوض لم تصل لنتائج تطبيقية على الأرض، ويأتي ذلك تزامناً مع تهديدات تركية بالتدخل لحسم الملف، ومراقبة ووساطة أمريكية وفرنسية لحلحلة القضية سلمياً.
وبينما تحاول الحكومة السورية الجديدة تثبيت ركائزها بعد عام من إسقاط النظام البائد، تتهم أوساط سياسية "قسد" بمحاولة التهرب من تنفيذ التزاماتها، في حين ترى الأخيرة أن دمشق تسعى إلى كسب الوقت لتفريغ الاتفاق من مضمونه، فهل نشهد مواجهة عسكرية بين الطرفين أو تدخل تركي مباشر؟
التصعيد العسكري... رسائل قبل “المعركة المؤجلة”
يرى الكاتب والباحث السياسي علي التمي، في حديث لوكالة ستيب نيوز أن الاستفزازات بين الجانبين ستتواصل حتى نهاية العام، مؤكدًا أن "هناك من لا يريد تسليم المنطقة وفق اتفاق 10 آذار".
وقال: إن "قسد تحاول التهرب من التزاماتها من خلال إثارة مشكلة هنا وأخرى هناك، في محاولة لإحراج الحكومة أمام الرأي العام"، موضحًا أن "الحركة الكردية تلعب على حافة التوازن بين التهدئة والتصعيد، إذ تهاجم تارة وتصدر بيانات تهدئة تارة أخرى، والهدف هو خلق جو مشحون يربك دمشق ويعرقل أي مسار تفاوضي جاد".
وأضاف التمي أن "الملف أصبح معقدًا للغاية، وأن حلّه لن يكون قبل نهاية العام، لأن أنقرة معنية به بالدرجة الأولى".
في المقابل، أوضح المحلل السياسي، محمد زنكنة، خلال حديث لوكالة ستيب نيوز أن التصعيد العسكري الأخير "لم يكن سوى رسالة سياسية متزامنة مع زيارة المبعوث الأمريكي توماس باراك إلى الحسكة ولقائه بمظلوم عبدي، ثم توجهه إلى دمشق للقاء أحمد الشرع"، معتبرًا أن "الرسالة مفادها أن الدعم الأمريكي لـ(قسد) لا يمكن أن يوازي القوة التي تمتلكها الفصائل السورية الأخرى المدعومة إقليميًا".
وبيّن زنكنة أن "الوضع لن يتطور أكثر من ذلك، لأن الجانبين محكومان باتفاق دولي لا يمكن كسره بسهولة، فكل طرف لديه التزامات أمام واشنطن وحلفائها".
وأضاف أن "الدولة السورية قد تفتعل بعض الأزمات بين الحين والآخر لتظهر بمظهر المسيطر أمام تركيا، التي باتت تهيمن على جزء كبير من المشهد السياسي السوري عبر أدواتها الميدانية والدبلوماسية"، حسب وصفه.

رفع سقف المطالب الكردية... بين الفيدرالية والضغط السياسي
في الأسابيع الأخيرة، رفعت "قسد" سقف مطالبها من دمشق، وبدأت تتحدث صراحة عن "نظام فيدرالي" في إطار الدولة الانتقالية، وهو ما اعتبره مراقبون انقلابًا على نهج التدرج السابق.
وأوضح محمد زنكنة أن "مجلس سوريا الديمقراطية، الجناح السياسي لـ(قسد)، يعيش حالة من التخبط نتيجة هيمنة حزب العمال الكردستاني وجناح قنديل على قراراته".
وأضاف أن "المطالب الفيدرالية كان يجب أن تكون مطروحة منذ البداية، لأن تأجيلها أضعف الموقف الكردي وأعطى دمشق الوقت الكافي لتقويض أي طموحات سياسية جادة".
وأشار زنكنة إلى أن "قسد منحت الحكومة مهلة لدراسة مطالبها لكنها أخطأت التقدير، إذ استغلت دمشق هذا التأجيل لصالحها"، مؤكدًا أن "المطالبة بالفيدرالية اليوم تأتي متأخرة لكنها تبقى أقل ما يمكن المطالبة به لضمان شراكة حقيقية في الحكم ضمن الدولة الجديدة".
أما علي التمي فاعتبر أن تصعيد الخطاب الكردي تجاه دمشق ليس جديدًا، بل "يأتي في سياق محاولات الهروب من تنفيذ الاتفاق والبحث عن ذرائع سياسية"، مضيفًا أن "قسد تحاول أن تبدو كطرف مظلوم أمام المجتمع الدولي، في حين أنها هي من يعرقل تطبيق الاتفاق ميدانيًا".
اتفاق 10 آذار... بين الالتزامات المؤجلة والضغوط المتزايدة
بحسب مصادر دبلوماسية، يتضمن اتفاق 10 آذار مراحل متدرجة تشمل دمج القوات الكردية في الجيش السوري، وتوحيد الأجهزة الإدارية والمالية، ومنح تمثيل سياسي للأكراد ضمن مؤسسات الدولة للأكراد.
إلا أن تلك البنود لم تُنفّذ بشكل فعلي حتى الآن، بسبب الخلاف على الصلاحيات الأمنية والإدارية في شرق الفرات.
وقال علي التمي إن "الملف لن يُغلق هذا العام، فالمشهد متشابك بالمصالح الإقليمية والدولية"، مشيرًا إلى أن "أنقرة تتابع الملف عن كثب، وتعتبر أن أي تلكؤ من الحكومة في الحسم سيبرر لها التدخل العسكري المباشر".
وأضاف أن "زيارة وزير الخارجية السوري إلى أنقرة مؤخرًا جاءت لتبادل وجهات النظر حول هذا الملف، وهناك تفاهم شبه كامل بين الجانبين على تفاصيله، سواء كانت صغيرة أو كبيرة".
في المقابل، يرى محمد زنكنة أن "حلّ ملف قسد قبل نهاية العام أمر مستبعد تمامًا، لأن المسألة أعقد من مجرد اتفاق سياسي"، موضحًا أن "ما قد يُنفذ سيكون على الأغلب للاستهلاك الإعلامي أمام الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي".
وأكد أن "هناك إرادة من داخل بعض مؤسسات الدولة بعدم تنفيذ أي التزامات، رغم توقيعها رسميًا، وهو ما يظهر في تصريحات بعض المسؤولين والمقربين من الحكومة".
روسيا وإيران... حضور رمزي وتوازنات أميركية
فيما تتراجع موسكو عن الانخراط المباشر في الملف السوري نتيجة انشغالها في حرب أوكرانيا، يرى محمد زنكنة أن "الدور الإيراني بات شبه معدوم، بينما الدور الروسي محكوم بتبادل المصالح مع الولايات المتحدة".
وأوضح أن "ملفات كبرى كالحرب في غزة والعلاقات الروسية-الأميركية تؤثر في توقيت تنفيذ أي اتفاق داخل سوريا"، مضيفًا أن "إيران قد تلجأ إلى تحريك بعض الخلايا التابعة للبعث أو أجهزة قديمة بهدف خلط الأوراق، لكن تأثيرها في هذا الملف محدود للغاية".
أما علي التمي فاعتبر أن "تركيا اليوم هي الفاعل الأبرز في معادلة الشمال السوري"، مؤكدًا أن "أنقرة لن تتردد في التدخل عسكريًا إذا رأت أن الحكومة غير قادرة على حسم الملف أو السيطرة على (قسد)".

تركيا بين التهديد العسكري والضغط الدبلوماسي
في موازاة المفاوضات المتعثرة، تواصل أنقرة التأكيد على ضرورة إنهاء ملف "قسد" سريعًا.
وقال محمد زنكنة إن "سوريا تمر بانسداد سياسي حاد، والدستور الحالي وثيقة انتقالية لا تلقى قبولًا من الأطراف الكردية والدروز والعلويين"، موضحًا أن هذا الواقع "يعزز الموقف التركي ويمنحها مبررًا للتدخل".
وأضاف زنكنة أن "زيارة رئيس إقليم كردستان العراق نيجيرفان بارزاني إلى أنقرة مؤخرًا شكلت خطوة مهمة لكسر الجمود وتوضيح المطالب الكردية"، مشيرًا إلى أن "تركيا تدرك سقف تلك المطالب لكنها لا تستطيع إعلان تأييدها بسبب ضغط التيار القومي الداخلي".
وختم بالقول إن "التدخل العسكري سيظل ورقة تهديد بيد أنقرة تستخدمها حسب طبيعة علاقاتها مع واشنطن، فكلما توترت العلاقة مع الولايات المتحدة، ارتفع منسوب التهديدات ضد قسد والعكس صحيح".
ما بعد نهاية العام... بين التهدئة والانفجار
يبدو أن الصراع بين الحكومة السورية و"قسد" دخل مرحلة جديدة عنوانها المماطلة السياسية والتصعيد المحسوب.
فالاتفاق الذي أريد له أن يكون مدخلًا للاستقرار الداخلي تحوّل إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية.
وفيما تتقاطع المصالح التركية والأميركية على ضرورة حسم الملف قبل نهاية المرحلة الانتقالية، تبقى دمشق و"قسد" عالقتين بين ضغط الخارج وحسابات الداخل.
لكن، كما يخلص مراقبون، فإن أي تأجيل إضافي في تنفيذ اتفاق 10 آذار قد يجعل من العام المقبل عام انفجار جديد في الشمال السوري، حيث لم تعد التهدئة خيارًا دائمًا، بل مرحلة مؤقتة في انتظار الجولة التالية من لعبة النفوذ والخرائط.