تشهد الساحة الليبية في الأسابيع الأخيرة سلسلة من التحركات المكثفة لقائد الجيش الوطني الليبي، المشير خليفة حفتر، عكست مساعيه لإعادة تثبيت موقعه في معادلة الصراع الداخلي، وتوسيع هوامش الدعم الإقليمي والدولي لصالحه، في ظل انفتاح غير مسبوق على تركيا، وتواصل استراتيجي مع دول عربية. هذه التحركات تأتي في وقت حساس، حيث تتزايد الضغوط لإجراء انتخابات وطنية، وسط تعثر مسار التوافق الداخلي وتنامي التحديات الأمنية في ليبيا وجوارها، فيما يشير خبير بالعلاقات الدولية أن نجاح هذه التحركات سيفتح الباب أمام "مفاجآت" في الوضع الداخلي الليبي.
لقاءات وزيارات مهمة
استقبل المشير حفتر قبل يومين إبراهيم كالن، رئيس جهاز المخابرات التركي، جاء ذلك بالتزامن مع زيارة المدمرة التركية TCG Kinaliada التي أجرت تدريبات بحرية مشتركة مع قوة البحرية التابعة للجيش الوطني الليبي في بنغازي بتاريخ 20–21 أغسطس.
وبعد اللقاء، عقدت اجتماعات عسكرية تركية مع قادة ليبيين، من بينهم نائب قائد الجيش الليبي ورئيس هيئة العمليات ضمن مساعي لتوحيد القوات الليبية في الشرق والغرب.
وتبع ذلك زيارة أجراها أمين عام المجلس الأعلى للأمن الوطني الإماراتي علي محمد الشامسي إلى بنغازي، حيث بحث مع حفتر سبل تعزيز العلاقات بين ليبيا والإمارات.
واليوم يجري حفتر ورئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح زيارة إلى مصر يلتقيان خلالها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
ما هدف التحرك التركي بالملف الليبي؟
على مدار سنوات كان هناك خلافات بين تركيا وحفتر، حيث دعمت أنقرة حكومة الوفاق في طرابلس وقواتها العسكرية، ضد قوات الجيش الوطني التي يقودها حفتر، لكن الأمر اختلف مؤخراً، ولم يكن لقاء كالن هو الأول بين مسؤول تركي وحفتر، وسبق ذلك زيارة لصدام حفتر إلى تركيا الشهر الفائت.
وبدأ هذا الانفتاح التركي في نيسان/أبريل الماضي، عندما استقبلت أنقرة رسمياً صدام حفتر بصفته آمراً للقوات البرية، وهو ما اعتُبر "إعلاناً غير مباشر" عن مرحلة جديدة من التوازن التركي بين شرق وغرب ليبيا.
حول ذلك يقول الخبير بالعلاقات الدولية، مهند حافظ أوغلو: "الهدف الأساسي والمباشر لزيارة إبراهيم كالن هو تمرير اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا عبر البرلمان الليبي. وقد اعترضت قوى في شرق ليبيا على هذه الاتفاقية في السابق، إلا أن التحركات التركية نحو الشرق، وتوضيح حقيقة أن الاتفاق سيعود بالنفع الاستراتيجي وليس المرحلي على ليبيا، جعلت الأمور تمضي نحو الحسم".
ويضيف: "هذه الزيارة التي يقودها الوزير إبراهيم كالن تأتي كخطوة أخيرة لتمرير الاتفاقية، وهو ما قد يفتح الباب أمام مفاجآت سياسية في الداخل الليبي، خصوصًا إذا رُجّح موقف الشرق على حساب الغرب، بما يضع الحكومة والبرلمان في طرابلس في موقف أضعف".

اتفاقية ترسيم الحدود البحرية
اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا، الموقعة في 27 نوفمبر 2019 بين حكومة الوفاق الوطني الليبية وتركيا، تُعد من أبرز بؤر الخلاف في شرق البحر الأبيض المتوسط، والهدف المعلن من الاتفاقية هو تحديد مناطق الصلاحية البحرية بين البلدين، مما يفتح المجال للتعاون في استكشاف واستغلال الموارد البحرية. ومع ذلك، قوبلت الاتفاقية برفض واسع من دول الجوار، خاصة قبرص واليونان، اللتين اعتبرتاها غير قانونية وتتنافى مع حقوقهما السيادية.
ورغم مرور أكثر من ست سنوات على توقيع الاتفاقية، لا تزال قيد المراجعة في البرلمان الليبي. فيما تتجه الأنظار إلى ما إذا كان البرلمان سيصادق عليها بعد التقارب التركي مع المشير حفتر.
يقول "أوغلو" في هذا الصدد: " تركيا تنسق بشكل أساسي مع دول المنطقة، وخاصة مع مصر وإيطاليا فيما يتعلق بالملف الليبي، مع تركيز واضح على الشرق. فالتحركات مع الغرب تسير بطبيعتها ضمن علاقات قائمة منذ سنوات، بينما ظل الشرق متحفظًا، مما دفع أنقرة إلى تكثيف تحركاتها باتجاهه، بالتوازي مع مصر وبعض الدول الأوروبية، في إطار الصراع على الغاز في شرق المتوسط وبحر إيجة".
ويوضح الخبير التركي أن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية ترتبط في معظمها بالشرق الليبي وليس بالغرب، لذلك جاء هذا الحراك الدبلوماسي للوصول إلى أهداف إقليمية جديدة.
ويضيف: " تأتي الزيارات العسكرية التركية، والتدريبات البحرية، وإرسال الفرقاطات، كرسالة قوة مرافقة للحراك السياسي، لتؤكد أن تركيا لا تسعى فقط لتمرير الاتفاقية، بل تلتزم أيضًا بالاتفاقات الدفاعية والتدريبات المشتركة. وهذا يعزز لدى بنغازي انطباعًا بأن أنقرة شريك ملتزم وليس مجرد طرف يسعى لمصالحه الخاصة".
أوروبا منقسمة بموقفها
بالوقت الذي كانت الدول الأوروبية غير راضية على اتفاقية ترسيم الحدود، باتت اليوم أمام واقع مختلف مع ذلك يظهر تباين في الآراء في دول الاتحاد.
يشير "أوغلو" إلى أن بعض القوى الأوروبية – وعلى رأسها فرنسا – تعرقل هذا المسار، بينما تظهر إيطاليا أكثر ميلاً إلى التفاهمات مع أنقرة وبنغازي والقاهرة.
ويضيف: " فرنسا وبعض الدول الأخرى، ترى أن تمرير الاتفاقية سيضر بمصالح اليونان وقبرص، ويضعف نفوذ أوروبا في شرق المتوسط. ولذلك قد تلجأ إلى ضغوط أو عقوبات ضد ليبيا لمنع إقرار الاتفاق بشكل رسمي".
حفتر رأس الحربة في توازن إقليمي جديد
يظهر جلياً أن المشير حفتر بات رأس الحربة في التغيير الإقليمي الجاري، حيث أن الاتفاق معه سيقرب الحلول المستعصية في الملف الليبي وربما أبرزها الانتخابات المؤجلة، إضافة لتمرير الاتفاقيات المهمة مثل اتفاقية ترسيم الحدود.
ويقول "أوغلو": "المشير خليفة حفتر أدرك أن سياسة تسجيل المواقف لم تعد مجدية، وأن التعامل المباشر مع تركيا يخدمه شخصيًا، كما يخدم الشرق الليبي وليبيا ككل. لقد اقتنع بأن تجاوز أنقرة لم يعد ممكنًا، وأن التعاون معها يفتح أفقًا سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا أوسع".
وبالتوازي مع ذلك أدركت أنقرة أن المواجهة مع حفتر لم تصل لنتائج ممكنة بل تسببت بتقسيم البلاد إلى حكومتين وجيشين وشد وجذب في البرلمان وتعطيل لمسار الحل السياسي المنشود بالبلاد.
ويبدو أن التحركات التركية المتوازية مع تحركات عربية تفتح الباب أمام مرحلة جديدة قد تعيد رسم ملامح النفوذ التركي في ليبيا ضمن معادلة أكثر توازناً وواقعية، وقد يترتب عليها "مفاجآت" سياسية في الداخلي الليبي كما يقول "مهند حافظ أوغلو"، بعد سنوات طويلة من صراعات أدخلت البلاد إلى دوامة من الانقسام السياسي والمؤسساتي.